الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ما قيمة المال الذي في أيدينا، إذا لم يحفظ لأحدنا كرامته، فغنى نفس أحدنا كنزه الكبير الذي يحفظ له كرامته، ويجعله على قدم المساواة مع الأثرياء، بل قد يتفوق عليهم، إذا كانت له نفس كنفس تلكم المرأة..
أن نتحدث عن الفضيلة هذا أمر يقدر عليه الجميع، حتى أراذل الخلق، بوسعهم أن يدعوا الفضيلة في أقوالهم إلى حد أننا قد ننخدع ونصدق، أما أن تفعل الفضيلة، أن تكون من أهلها حقاً، أن تقدم على أفعالها ومواقفها العظيمة، فهنا تبلى السرائر، وتختبر المعادن، وتمتحن النفوس، ويتبين النفيس من الرخيص.
جرت العادة على أن نستدعي الأسماء الكبيرة، والشخصيات العالمية، حين نضرب الأمثال للثراء المادي، ونستدعي نماذج من التراث الإنساني وتراثنا العربي حين نضرب الأمثال للثراء الأخلاقي، وهذا قد يجعل بعضنا يصاب بشيء من الإحباط والتقاعس، ظناً منهم أن هذه قصة بعيدة المنال حصلت في بلد بعيد، أو زمن قديم، لذا لن نذهب بعيداً هذه المرة، وسنستدعي قصة من بيننا، قصة لعل صاحبتها ما زالت تعيش غير بعيد عنا، وأحداثها ما زالت وقائعها جارية، حتى لا يكون لأحد حجة، وندرك أن الفضائل ليست بعيدة عنا، وليست من زمان أو مكان بعيدين، قصة سمعها كثير مؤخراً من سمو الأمير عبدالرحمن بن مساعد في مقطع مصور قص فيه سموه بكثير من الدهشة، قصة عجوز مصرية فقيرة تسكن في مقابر التقاها في أثناء مروره في طريقه عائداً من منزل صديق بأحد الأحياء الفقيرة بالقاهرة، كانت تمر بجوار سيارته هو وصديق له، فوقعت عين صديقه على المرأة مقبلة من المقابر في حالة رثة، فطلب التوقف بالسيارة عندها للتصدق عليها بتقديم مساعدة مالية لها، وبالفعل توقفا عند المرأة، وأخرج صديق سموه مبلغاً مالياً قيمته عشرة آلاف جنيه من حقيبة كانت معه وقدمها للمرأة، فتساءلت المرأة عن سبب تقديمه المال إليها، وحين قال لها إنها صدقة رفضت أن تمد يدها إليها، وقالت له إنها ليست في حاجة إليها، لكن لسان حال المرأة كان يؤكد أنها في حاجة إليها، فما كان منه إلا أن أصر عليها، وحاول جاهداً معها أن تقبل المبلغ، فرفضت المرأة تماماً، وقالت له إن كنت مصراً على مساعدتي فاشترِ مني هذا الليمون، وكانت في طريقها لتفترش به الأرض في السوق طوال يومها، شأنها شأن الباعة المفترشين، فاندهش الرجل وسألها متعجباً عن سعر الليمون الذي في حوزتها كله، فقالت «خمسون جنيهاً»، فدفع لها خمسون جنيهاً قيمة الليمون، وأخذه، وأخذت هي تدعو له كثيراً، ثم انصرفت وكل منهما ينظر للآخر غير مصدق ما رأى وسمع، وكان تعليق سمو الأمير عبدالرحمن على هذه المرأة أنها «أغنى امرأة في العالم».
هذه القصة تضعنا أمام حقائق كبيرة، وقد تجعلنا نعيد تفكيرنا في كثير مما نعتقد، ففي الوقت الذي يتدافع فيه المحتاج وغير المحتاج على مساعدات الدولة للباحثين عن عمل، أو غيرها من الفرص التي يستبق إليها غير المستحقين، فيضيقون فرص المستحقين في الحصول عليها، أو غيرها من الممارسات التي تفتقر إلى التعفف، نجد هذه المرأة ترفض عشرة آلاف جنيه هي لا شك في أمس الحاجة إليها، لأنها لا تريدها في صورة صدقة أو مساعدة، وإنما تريدها رزقاً كريماً من عمل شريف يحفظ لها كرامتها، ويبدو أن الفارق بين المرأة النادرة في هذا الزمان، والسواد الأعظم منا، أن فطرتها ما زالت سليمة، أو أن هناك من لقنها منذ طفولتها قيمة الكرامة والاستغناء، وهي قيم لا يشترط أن يولد المرء في بيت ثري حتى يكتسبها، فما أكثر أثرياء المال فقراء النفوس، وما أكثر من أثرت نفوسهم في بيئات فقيرة، فقط لأن والديهم حرصوا على أن ينمو فيهم الشعور بغنى النفس، وينشئوهم على قيمة العمل الكريم الشريف الذي يحفظ للإنسان كرامته، ويعصمه من مد يده للآخرين وإراقة ماء وجهه لديهم، سواء كان يمجها لطلب بضعة ريالات، أو يمدها لطلب (شرهة) بملايين، فالأمر سيان، لا كرامة ولا غنى فيه، فكما أن هذه المرأة التي رفضت آلاف الجنيهات في صورة صدقة، أطلق عليها سمو الأمير عبدالرحمن لقب أغنى امرأة في العالم، فإن الموسرين الذين يتلقون الهبات من رفقائهم ومعارفهم وأقربائهم أفقر الناس، إذ ما قيمة المال الذي في أيدينا، إذا لم يحفظ لأحدنا كرامته، فغنى نفس أحدنا كنزه الكبير الذي يحفظ له كرامته، ويجعله على قدم المساواة مع الأثرياء، بل قد يتفوق عليهم، إذا كانت له نفس كنفس تلكم المرأة. نسأل الله العظيم أن يعفنا ويغنينا جميعاً، ويرزقنا غنى النفس.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال