الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
State of Minnesota vs. Otis Lee Walker
استكمال الشهود من الشرطة وخبير أسلحة ووالدة المتهم
توالى دخول الشهود واستجوابهم كلٌ على حدة ، لا يعلم أحدهم عن مضمون الشهادات الأخرى و لا الأسئلة الموجهة للشهود ، وكان المتهم في جميع هذه المداولات مستمعاً مصغياً بتوجس لهذه الحوارات التي تأخذه تارة لحياة جديدة منتعشة بالبراءة من هذه التهمة ، وتارات تقذف به إلى الأمام سنين بعيدة في دهاليز السجون ، فلم يكن ثمة أحدٌ أحسن منه إنصاتاً ، وليس توترٌ في القاعة يجاري تلك الأمواج من الأحاسيس و التوجسات المتناقضة التي تتحطم على رأسه الأسمر الخالي من الشعر.
أثناء استجواب محامي الادعاء لأحد الشهود ، اعترضت محامية المتهم ورفعت صوتها بكلمة واحدة ” اعتراض” أو (Objection) ، فالتفت الجميع للقاضي ينتظرون رأيه في الأمر ، فرد أيضاً بكلمة واحدة ” تأييد ” أو (Sustain) أي أنه يؤيد الاعتراض لذلك لا يحق للمحامي طرح السؤال ولا يلزم الشاهد الجواب ، لكن غالب حالات الاعتراض كان يرفضها القاضي. ولما كثرت اعتراضات محامية المتهم ، استدعى القاضي المحامين لمناقشة مسألة كثرة الاعتراضات ، ولم يكن أحد يسمع ما يدور بين القاضي والمحامين لوجود نغمة التشويش في مكبرات الصوت والتي سبقت الإشارة إليها.
يوم الأربعاء 9- أبريل
في هذا اليوم كان من ضمن الشهود الذين أحضَرَهم الادعاء ، خبير أسلحة متخصص في مسدسات اليد حيث كانت هي أداة الجريمة في هذه القضية ، وقد أحضره الادعاء ليثبت أن مخازن الرصاص التي عثر عليها في صندوق النفايات العامة في موقع الجريمة تتطابق مع نوع المسدس الذي يمتلكه المتهم ، ولا أذكر أنه أدلى بشيء مؤثر في القضية لكن الذي يستحق الذِّكر هنا هو حضور هؤلاء المتخصصين أمام المحكمة وفتح الباب لمناقشتهم وعدم الاكتفاء بآرائهم مكتوبة ومرفقة بمستندات القضية .
الساعة (11:30 صباحاً) ، دخل القاعة أول شاهد يُحضره محامي المتهم ، وكانت والدة المتهم هي الشاهد هذه المرّة. قامت محامية المتهم السيدة يارني بسؤالها عن وظيفتها وسمعتها في الحي وعن يوم الجريمة وأين كان ابنها المتهم ذلك اليوم فأجابت بأنه كان في مكان يبعد قريباً من نصف ساعة من الحي طيلة ذلك اليوم. ثم تقدم محامي الادعاء فسألها عن اتصالها الهاتفي بأحد الشهود – وهي إحدى جاراتها في الحي – وأنها ذكرت للشاهد في الاتصال أنها لا تعرف أين ابنها ، فقالت : لا أذكر هذا السؤال. ثم سألها هل كان ابنك يعلم عن علاقتك غير المشروعة بالمقتول فقالت: لا لم يكن لديه أي علم . وللعلم فقد كانت والدة المتهم تتعاطى المخدرات وكان المقتول يوفرها لها مقابل هذه العلاقة غير المشروعة ، وكان الادعاء في دعواه يرتكز في دعواه على أن اطلاع المتهم على هذه العلاقة كانت الدافع الأساسي للإقدام على الجريمة.
الساعة (11:50 صباحاً) دخل الشاهد الثاني من شهود المتهم ، وكان هذا الشاهد هي أخت المتهم ، فسألتها محامية المتهم بعض الأسئلة المعتادة ، ثم سألها محامي الادعاء نفس السؤال الذي وجهه لوالدتها : هل كان أخوك المتهم على علم بعلاقة والدتك غير الشرعية بالضحية ؟ فأجابت بغير تردد : نعم ، فقد كان على علم بذلك. سادت القاعة لحظات من الصمت والوجوم ، فقد كانت إجابة صادمة لكل من في القاعة ، فلم تمض بضعة عشر دقيقة على إنكار الأم ثم تأتي هذه الأخت فتنقض جواب والدتها !! بدأت أتفحص وجوه هيئة المحلفين المرتبكة من هذا التناقض ، ومعاوني القاضي كأني أقرأ في ملامحهم أن القضية قد حسمت بهذا التضارب الذي لم يكن ليقع بهذه السهولة. المحامية كأنما سقطت من شاهق ، فلم تقوَ على كلام أو ردّ أو حركة فقد أدركت حجم هذه الثغرة التي ستودي بقضيتها وبموكلها وربما بسمعتها. نعم ، ففيما بقي من تداول ومرافعة للقضية لم تعد تلك المحامية بحماسها وطرحها وأسئلتها ، لقد عصفت بها شهادة أقرب الناس لموكلها وأطاح برأس المتهم سلاحٌ كان مُعَداً للدفاع عنه. أما أنا فوجدتُني متعاطفاً مع المتهم بلا سبب مقنع ، و لا أدري لماذا لم يطرأ هذا التعاطف إلا حين ظهر دليل يؤيد ارتكاب المتهم لهذه الجريمة ، شعور غريب لا أعرف سببه !! بعد تأمل ، ظهرت لي حقيقة ، وهي أن مصدر التعاطف – بعيداً عن جرم المتهم – هو خذلان المحامي لموكله بالوقوع في خطأ لا ينبغي أن يقع فيه محامٍ مبتديء ، كل ذلك كان وفقاً لحسابات بسيطة قد لا تنطبق بالضرورة على هذه القضية ، فقد يقال أن الأخت لا تعدل بالصدق شيئاً أو أن أخلاقيات المهنة تحتم عدم تلقين الشاهد ، لكن صدمة المحامية والمتهم وجلّ مَنْ في القاعة هو ما جعلني أوقن أن خطباً ما لم يكن متوقعاً حدوثه. أما الشخص الوحيد الذي كنت أراه منتشياً منتفشاً لا يكاد يستقر على مجلس ، فهو محامي الادعاء الذي كان يتلفت جذلاً مستبشراً و كأنما أضاف لرصيده مكسباً كبيراً لم يتوقع حصوله بهذه السهولة.
بعد هذه الشهادة الكارثية على المتهم كانت هناك شهادتان لاثنين من سكان الحي ، ولم يكن فيهما ما يلفت الانتباه أو يستحق الإشادة ، خلا أنهما خاتمة الشهادات في هذه القضية.
يوم الخميس 10 – أبريل
حيث استكمل الطرفان تقديم الشهود و الأدلة ، لم يبق سوى كلمة ختامية يوجهها كل محامٍ لهيئة المحلفين. فعند الساعة (10 صباحاً) ابتدأ محامي الادعاء كلمته واقفاً مواجهاً هيئة المحلفين التي أكد فيها على الأدلة التي تثبت تهمة القتل على المتهم ، واستمر في عرض حججه يلوّنها ويشكّلها ويزوّقها بكل ما أسعفه بيانه ومهارته وألمعيته ، عساه يفلح في جمع هيئة المحلفين على رأي واحد وهو إثبات التهمة على المدعى عليه المتهم بالقتل السيد / أوتيس لي. واسترسل المحامي في عرضه هذا ، لا يعكر عليه داخل ولا خارج، ولا قاض ولا كاتب ، ولا اعتراض من الخصم أو محاميه حتى أنهى ثلاثين دقيقة بتمامها و كمالها عند الساعة 10.30 .
ابتدأت محامية المتهم مستجمعة ما أمكن من لياقتها ولباقتها لهذه الجولة النهائية ، وكأنها تلملم شتاتها بعد كارثة شهادة الأمس. كان عرضها جيداً ولا تزال تملك بصيصاً من الأمل في اقناع المحلفين للوصول إلى رأي بالإجماع حيال براءة موكلها ، أو على الأقل تثنيهم عن الإجماع على إثبات التهمة فتعتبر القضية منتهية لفشل الهيئة في الوصول إلى حكم لكن هذا نادراً ما يقع ، فيبقى الاحتمال الأكبر لديها – سيما بعد حادثة الأمس – أن اجماع المحلفين على اتهام موكلها بالقتل هو الذي تخدمه ظروف القضية وما تم تقديمه من أدلة. كانت قد أعدّت ملف بوربوينت فابتدأت بشرح مبدأ في الدستور يشير لحماية حرية الإنسان وأن الأصل براءة المتهم ، ثم أكدت على خطورة حكم هيئة المحلفين الذي يترتب عليه مستقبل المتهم وحياته ومستقبل أسرته جميعاً. وقد طلب منها القاضي تجاوز بعض الوثائق والصور لأن المحاكمة تجاوزت عرض الأدلة ولم يسبق لها تقديم هذه الوثائق من قبل أو تحصل على إذن من القاضي لعرضها. وبعد عرض استمر لخمس وعشرين دقيقة اختتمت المحامية كلمتها متوجهة لكرسيها بجوار المتهم تسابقها عبَراتُها ، وما كادت تستقر جالسة إلا وانفجرت باكية تنتحب ، فأخذ المتهم المفجوع يهوّن عليها ، ولا أدري ما يمكن أن يجول بخاطره تلك اللحظات العصيبة !.
القاضي من جهته لا يدري كيف يعالج الأمر لكنه بادر بكلمتين عامة لتهدئتها ، وما هي إلا دقيقة أو نحوها حتى عادت المرافعة لمسارها ، وحينها توجه القاضي لمحامي الادعاء وقال إن نظام المحكمة يحتّم أن تكون الكلمة النهائية لدى المدعي ، فأوجز كلمته في ثلاث جمل لم تتجاوز كل منها عشرين ثانية.
الساعة 11.10 ص. القاضي أعطى هيئة المحلفين التوجيهات النهائية لطريقة إصدار الحكم.
الساعة 11.25 ص. حارس الأمن المختص يبذل القسم بأن يأخذ المحلفين إلى قاعة المداولة و ألا يسمح لأحد بالتواصل أو الحديث مع المحلفين.
الساعة 1.25 . عاد القاضي و هيئة المحلفين والمحامون والمتهم إلى قاعة المحاكمة للاستماع إلى قرار هيئة المحلفين. امتلأت مقاعد القاعة بأقارب المتهم وعلى رأسهم والدته وأخته صاحبة الشهادة المُرْبكة و بعض الأطفال وأظنهم إخوان للمتهم. من خلال تصرفاتها مع اطفالها تدرك حجم القلق والتوتر الذي يعتري هذه الأم ، فهي لا تدري بعد لحظات هل ستأخذ بيد ابنها معها لبيتها ، فتكون ليلة الفرح الذي لا يفوقه في بابه مثله ، أم يقاد ابنها أمامها للباب الخلفي من القاعة ، إيذانا بابتداء رحلة خمسة وعشرين عاماً من الفراق والتعاسة والشقاء لها ولولدها والتردد على السجون لتلتقي به من وراء الحواجز الزجاجية.
أما أنا اليوم فقد رجعت إلى رشدي و غاب عني التعاطف مع هذا القاتل و والدته سيئة السيرة ، فكنت أقرب إلى التوافق مع محامي الادعاء وانتظر الحكم بثبوت الاتهام على المدعى عليه. لحظات وتم الإعلان عن قرار هيئة المحلفين الذي صدر بالإجماع ، وكما كان بعض من في القاعة ينتظر ويتوقع وسيفرح ، فقد وصلت هيئة المحلفين إلى قرار !!! ببراءة المدعى عليه أوتيس لي من تهمة القتل. ولم تعد أسطر المقال تسعف لوصف فرحة تلك الأم بحياة ابنها التي وُهبت له من جديد.
تم المقال بحلقاته الثلاث ، وأسعدني بقاؤكم حتى الختام.
قضية قتل أمام هيئة المحلفين “3/1”
قضية قتل أمام هيئة المحلفين “3/2”
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال