الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تحدثت في المقال السابق عن ضرورة التكامل التشريعي لجذب الاستثمارات ولتحقيق بيئة آمنة لرؤوس الأموال ومحفزة لتعظيم الأرباح بائتمان عالٍ وشفافية في الأنظمة ووضوح في الإجراءات التنظيمية والقضائية وسهولة وتناغم في حركة المنظومة التجارية، وأشرت إلى أن التكامل التشريعي بشقيه (التكامل النصي) و(التكامل الاختصاصي) غدى محوراً هاماً على خارطة الهيكلةالتشريعية في المملكة.
وفي هذا المقال نأخذ جولة سريعة على واحد من أهم الأمثلة لما تضمنه عنصرا التكامل التشريعي وهو (تشريعات المنافسة) إذ تُعنى تشريعات المنافسة بمكافحة الاحتكار وتعزيز حرية الأسواق وإتاحتها لدخول اللاعبين بحرية وخروجهم أيضاً بحرية دون أن تقف خلف تلك العمليات في الدخول والخروج ممارساتٌ احتكارية أو مضايقات من المحتكرين أو القلة المؤثرين على الحرية السوقية، حيث يجب أن تحكم دخول المنافس أو خروجه من السوق مبادئ العرض والطلب وتكاليف الإنتاج والأرباح وجدوى الاستمرار وأن تكون علاقة مقدم الخدمة أو منتج السلعة بالمستهلك أو الوسيط متجردة من المؤثرات الاحتكارية وممارسات المنافسين غير المشروعة، وأن تجري مراقبة القطاعات بمختلف أنشطتها وفق قواعد المنافسة العادلة التي تنعكس على المستثمر ذاته أولاً وعلى المستهلك وعلى تنمية الناتج المحلي بطريقة صحية تضمن الاستدامة والنمو التصاعدي، وهو ما يسهم بطريقة مباشرة في جذب الاستثمار الأجنبي ويقفز عالياً بمؤشر انفتاح الأسواق المحلية على العالم تصديراً واستيراداً وتداولاً، إلا أن من أبرز المخاوف التي قد تعرقل دخول شركات الاستثمار الأجنبية للإسهام في التنمية الاقتصادية (غياب شفافية البيئة النظامية والتنظيمية) من حيث النصوص النظامية وتطبيقاتها من جانب، ونطاق السريان والاختصاص من جانب آخر، وإجراءات التقاضي وحلول النزاعات من جانب ثالث.
وعندما نتناول تشريعات المنافسة في المملكة نجد أن المنظم قد عني عناية تامة بسن النصوص النظامية وتحديد الصلاحيات والاختصاصات المنظمة لأحكام المنافسة، ولم يقتصر الأمر على الاكتفاء بنظام خاص بالمنافسة بل أكد على تطبيقات المنافسة العادلة في عديد من النصوص المنثورة في أنظمة متعددة.
إذ صدر نظام المنافسة بالمرسوم الملكي رقم م/25 وتاريخ 4/5/1425هـ وعُدِّل في العام 1435هـ متضمناً كما في أغلب الدول والتشريعات الدولية المقارَنة: التعريفات والمفاهيم، ونطاق السريان والاختصاص الولائي كما في المادة الثالثة، وأهم المحظورات على سبيل التمثيل لا الحصر كما في المادتين الرابعة والخامسة وغيرهما، وهو ما يؤكد شمولية النظام من حيث موضوعه لكافة الممارسات ذات الأثر المخل بالمنافسة مع مراعاة تحقق الأوصاف الواردة في صدر المادتين الرابعة والخامسة لا باشتراط تحقق واحد من الأمثلة المنصوصة في فقرات هاتين المادتين، وأسند المنظم تطبيق نظام المنافسة إلى جهاز متخصص وهو الهيئة العامة للمنافسة -(مجلس المنافسة) سابقاً-، كما تجاوزت الرقابة الممنوحة من المنظم للهيئة على المحظورات الاحتكارية إلى بسط رقابتها على حالات الاندماج والاستحواذ وتملك الأسهم والأصول بين منشأتين فأكثر إذا بلغ هذا الاندماج نسبة حددتها اللائحة بـ 40% فأكثر، أو خلق مركزاً تنافسياً قادراً على التأثير في السوق أو جزء هام منه، ورقابة الهيئة على هذه الحالات –وإن كانت رقابة إجرائية لمنح الموافقة أو الموافقة المشروطة أو الرفض- إلا أنها تضمنت معنىً جوهرياً في دور نظام المنافسة في منع التحولات الممهدة لحالات الاحتكار الضارة في السوق استباقياً، فدور النظام إذاً يزدوج في وظيفتين هما: (الرقابة الوقائية) كما يظهر من اختصاصات الرقابة على حالات الاندماج والاستحواذ، و(الرقابة العلاجية) وتظهر في اختصاصات الضبط والتحقيق والادعاء عند نظر مخالفات المنافسة، وسلطة إيقاع العقوبة من خلال اللجنة ذات الاختصاص شبه القضائي المخولة بذلك.
ولتأكيد الدور المهم لنظام المنافسة وضرورة تطبيقه بمعزل واستقلال عن جميع المؤثرات والتداخلات الاختصاصية والوظيفية والتنفيذية؛ فقد صدر قرار مجلس الوزراء رقم 319 وعام 1434هـ بتعديل اسم (مجلس حماية المنافسة) إلى (مجلس المنافسة) تكريساً لمهامه المتنوعة التي لا تقتصر على الحماية فحسب بل تتجاوز ذلك إلى تعزيز وتشجيع المنافسة العادلة ونشر ثقافتها ورفع مستوى الوعي بإيجابياتها وتطبيقاتها، كما تضمن القرار منحه الشخصية الاعتبارية المستقلة ليمارس دوره بفاعلية أكبر، وفي ظل ما تشهده المملكة من نمو متسارع وتطويرٍ للبيئة الاستثمارية وسعيٍ لتعزيز ثقة المستثمر والشركات العالمية ببيئة المنافسة العادلة وإعادة هيكلة السوق وتشجيع الاستثمار في قطاعاته المختلفة فقد أصدر مجلس الوزراء قبل أيام قليلة قراره بتعديل مسمى مجلس المنافسة إلى (الهيئة العامة للمنافسة) والموافقة على تنظيمها المتضمن أن تتمتع الهيئة بالاستقلالية التامة وترتبط مباشرة برئيس مجلس الوزراء، كل ذلك يأتي في سياق الاهتمام الكبير بتعزيز ممارسات المنافسة العادلة ومكافحة كافة أشكال الممارسات الاحتكارية لخلق بيئة مزدهرة جاذبة للاستثمار.
إلا أن معيار (التكامل التشريعي) الذي يعد بدوره مقياساً لمؤشر نجاح وإيجابية الإطار القانوني، لا يزال حاظراً هنا ليعبّر عن نمطٍ متداخل في الأدوار والاختصاصات التنظيمية والرقابية، فبالرغم مما استعرضناه من دور شامل لنظام المنافسة في سبيل تعزيز المنافسة العادلة ومكافحة الممارسات الاحتكارية، نجد أن ثمة نصوص في عدد من الأنظمة الأخرى تناولت أيضاً تعزيز المنافسة العادلة ومكافحة الممارسات الاحتكارية في ذات القطاع الذي تختص برقابته جهة تنظيمية محدودة النطاق كهيئة الاتصالات وتقنية المعلومات إزاء قطاع الاتصالات والشركات العاملة فيه، وهنا قد لا تكون المشكلة في الفراغ التشريعي أو ثغرة (التكامل النصي) -المشار لها في المقال السابق- بقدر ما تكمن المشكلة في الشق الثاني من ثغرات (التكامل التشريعي) وهو (التكامل الاختصاصي)؛ إذ قد تتحول كلٌ من الجهات التنظيمية إلى بسط سلطتها على رقابة المنافسة في القطاع المعنية به دون تنسيق مع الجهاز المختص بموضوع المنافسة اختصاصاً شاملاً، ما قد ينشأ عنه تكرار الرقابة وتكرار استخدام السلطة الجزائية إزاء الحالة الواحدة، فقد عقد نظام الاتصالات –مثلاً- فصلاً مستقلاً لأحكام المنافسة، وهو ما يمثل تداخلاً في الاختصاصات بين سلطة هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات في الرقابة على ممارسات المنافسة في قطاع الاتصالات، مع سلطة هيئة المنافسة في الرقابة على “جميع المنشآت العاملة في الأسواق السعودية ما عدا المؤسسات العامة والشركات المملوكة بالكامل للدولة” كما في المادة الثالثة من نظام المنافسة، وهنا أنا لا أرجح رأياً على رأي حيث أسهب فقهاء وشراح القانون في تكييف الحالة الواحدة التي تنشأ عنها أكثر من مخالفة لأكثر من نص مما يتولد عنه أكثر من اختصاص وأكثر من جزاء عقابي، إنما أشير إلى الدور المأمول من السلطة التشريعية بالمملكة في تنظيم مثل هذه التداخلات المربكة لقطاع الأعمال من ناحية، والتي قد تستغلها بعض الشركات العاملة في بعض القطاعات للعب على أكثر من وتر من ناحيةٍ مقابِلة.
بقي أن أشير هنا إلى أن (المنافسة العادلة) قيمةٌ حضارية وتنموية وسلوكية تتشارك في تعزيزها وحمايتها كافة القطاعات ومن غير المنطقي المطالبة بإسناد تعزيز هذا المفهوم وحمايته كـ(قيمة) إلى جهاز واحد حتى وإن كان مسؤولاً بشكل مباشر عن أحكام المنافسة كـ(اختصاص رقابي).
فنظام الاتصالات على سبيل المثال نص في الفقرة 3 من المادة 3 على (إيجاد المناخ المناسب للمنافسة العادلة والفعالة وتشجيعها في جميع مجالات الاتصالات) وهو ما يتسق وكون المنافسة تمثل قيمةً عامة تعززها الممارسات الإشرافية للأجهزة التنظيمية كلٌ بحسبه.
إلا أن الحل الأمثل بنظري إزاء تنظيم الاختصاصات هو التفريق بين حماية وتعزيز (المنافسة) كقيمة تتشارك في مسؤوليتها الحضارية والتنموية عدة أجهزة ومؤسسات، وبين الرقابة على ممارسات المنافسة كاختصاص مركزي شامل يجب أن يتم توحيده وإسناده كأولوية إلى الهيئة العامة للمنافسة التي ينبغي أن تقوم هي الأخرى بدورها كجهاز مركزي مستقل يؤدي وظيفته الإشرافية والتنسيقية والمرجعية لكافة المؤسسات والأجهزة التنفيذية في مجالات المنافسة، دون أن يخل هذا الأمر بالاختصاص الوظيفي للهيئات التنظيمية في الرقابة على ممارسات القطاع ومنها مخالفات المنافسة التي ينبغي أن تتم معالجتها بالتنسيق مع الهيئة المختصة بالمنافسة اختصاصاً أولوياً.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال