الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بذات القدر الذي تشهده إصلاحات القطاع العام لتحسين فاعليته ومعالجة الثغرات والنتوءات التي عرقلت أو خفضت وتيرة الإنجاز إلى مستويات متدنية في بعض المؤسسات إيماناً من القيادة الحكيمة بالدور الجوهري للقطاع العام في تعزيز كفاءة الاقتصاد وتصحيح مسيرة التنمية الشاملة وتذليل العقبات وإزالة العراقيل وأهمها الفساد الإداري والمالي الذي يخلق بدوره مناخاً طارداً للاستثمار؛ يشهد القطاع الخاص أيضاً على نحوٍ موازٍ عمليات إصلاح وتحديث شاملة لمعالجة كافة الظواهر السلبية المؤثرة على مسيرة التنمية الاقتصادية بهدف جذب الاستثمارات وتوفير مناخ آمن وجاذب لرؤوس الأموال وتنويع مصادر الدخل وخلق الفرص وتعزيز الابتكار للوصول إلى منصة المنافسة الريادية في جذب استثمارات نوعية ومستدامة، وتزامناً مع ذلك التفت المنظم إلى دعم وتمكين المؤسسات الرقابية لتؤدي دورها في تصحيح مسار القطاع الخاص وتحقيق أقصى قدر من معايير التنافسية طبقاً لمؤشرات البيئة الاستثمارية عالمياً وصولاً إلى الهدف المنشود لتصبح المملكة قوة اقتصادية واستثمارية رائدة ومحور ربط للقارات الثلاث ومحطةً للفرص التجارية وليكون سوقها محفزاً لتوليد الفرص والاستثمارات النوعية والابتكارية؛ وفي هذا السياق صدر قرار مجلس الوزراء رقم ٥٥ وتاريخ ٢٠/ ١/ ١٤٣٩هـ بتحويل مجلس المنافسة إلى “الهيئة العامة للمنافسة” والموافقة على تنظيمها المنشور بجريدة أم القرى في عددها 4695 الصادر قبل عدة أيام، والذي أصبح نافذاً من تاريخ نشره وفقاً للمادة ١٧ منه.
من أجل أن تتولى الهيئة حماية وتشجيع المنافسة العادلة ومكافحة الممارسات الاحتكارية، والمحافظة على البيئة التنافسية لقطاع الأعمال في إطار من العدالة والشفافية.
وبقراءة سريعة لتنظيم الهيئة نجد أولاً أن هذا التنظيم بشكله التشريعي يعد سابقة نوعية في المملكة إذ لم يكن للجهاز المعني بالمنافسة -مجلس المنافسة سابقاً- تنظيمٌ مستقل وإنما كانت أهم الجوانب التنظيمية مشمولة بنظام المنافسة الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/ ٢٥ وتاريخ 4/ 6/ ١٤٢٥هـ وما يتممه من قرارات ذات صفة تنظيمية كقرار مجلس الوزراء رقم 319 الصادر بتاريخ 14/ 9/ 1434هـ، وبصدور هذا التنظيم بحلته غير المسبوقة يُستكمل الشكل التنظيمي للهيئة وتتحدد طبيعتها المستقلة بصفة تامة لترتبط مباشرة برئيس مجلس الوزراء كما تؤكده المادة الثانية.
ورغم مزيج المواد التي تتماثل مع كثير من مواد التنظيمات الأخرى للهيئات والمؤسسات العامة؛ طبقاً للسياسة التشريعية التي تراعي عادةً مبدأ استقرار المرافق العامة لموازاة الأجهزة والهيئات العامة بعضها البعض في جوانبها التنظيمية المتجردة عن الوظيفية الفنية للجهاز مما لا يرتّبه اختلافُ اختصاص كل جهة عن الأخرى، فقد احتوى التنظيم على ١٧ مادة تناول صلاحيات واختصاصات الهيئة بصفة عامة (أي بمختلف مكوناتها) كما في المادة الثالثة، ومن ذلك إصدار القواعد والإجراءات لضمان المنافسة العادلة كقواعد مراقبة السوق وقواعد منع الممارسات الاحتكارية، ومن أدوار الهيئة ووظائفها أيضاً مراقبة السوق، ونشر ثقافة المنافسة، وعقد الندوات والمؤتمرات، وإجراء الدراسات والبحوث، وتعزيز التعاون والتنسيق مع الجهات ذات العلاقة، كما تنص عليه الفقرات (1 – 4) من المادة الثالثة، وهو ما يعني باختصار بأن للهيئة أربعة وظائف أساسية (تشريعية، ورقابية، وتوعوية، وتنسيقية).
ومن أهم مواد التنظيم المادة السابعة التي تناولت بيان المركز القانوني لمجلس الإدارة ونصت على أنه هو السلطة العليا للهيئة، وأدرج المنظم تحت هذه المادة سبعة عشر اختصاصاً على سبيل التمثيل والتأكيد لا على سبيل الحصر والتقييد، وعزز المنظم في صدر هذه المادة الدور الشامل لمجلس الإدارة في كل ما من شأنه تعزيز المنافسة المشروعة وتحقيق أهداف الهيئة، ومن أهم مضامين المادة السابعة أنها أسندت إلى المجلس متابعة (تنفيذ الأنظمة والتعليمات المتعلقة بالمنافسة والحد من الممارسات الاحتكارية، وله اتخاذ ما يراه كفيلاً بتحقيق أهداف الهيئة وحماية المنافسة العادلة وتشجيعها) أي أن لمجلس الإدارة دوراً إضافياً في رسم سياسات المنافسة والإدلاء بالرأي حيال كل مامن شأنه أن يؤثر على مبادئ المنافسة العادلة أو يغير مراكز القوى التنافسية في السوق سواءً من مستجدات القطاع الخاص –وهو اختصاصه الأصيل- أو من ممارسات وسياسات القطاع العام الذي قد يتخذ بعض القرارات المؤثرة على حرية التنافس أو تقيد حركة اللاعبين في السوق، لذلك وباعتقادي أن المنظم أدرج في عضوية مجلس الإدارة ممثلين عن أهم الجهات الحكومية التي قد تتداخل سياساتها مع الدور الإشرافي والرقابي للهيئة في تكريس مبادئ المنافسة العادلة، فنجد أن المادة الرابعة نصت على عضوية ممثل عن وزارة التجارة والاستثمار، وممثل عن وزارة المالية، وممثل عن وزارة الاقتصاد والتخطيط، وممثل عن وزارة الطاقة والصناعة والثروة المعدنية، ليصبحوا أربعة من أصل عشرة كممثلين عن أهم الأجهزة الحكومية ذات الصلة بتعزيز المنافسة المشروعة ومكافحة الممارسات الاحتكارية لمزيد تنسيق وتكامل في الأدوار والسياسات الإشرافية.
وبالعودة إلى المادة السابعة المتعلقة باختصاصات مجلس الإدارة نجد أنها أتاحت للمجلس سلة اختصاصات مرنة لما قد يستجد من متغيرات يفرضها واقع الحركة السوقية مما يتسق مع الطبيعة التنظيمية لمجلس الإدارة وسلطته العليا، وهذا ما لم يكن أيضاً موجوداً في الجوانب التنظيمية السابقة إذ كانت منصوصة على سبيل الحصر فحسب.
إن هذا التغيير النوعي في صلاحيات مجلس الإدارة من التقييد المنصوص إلى الشمولية المرنة يمثل طوراً مهماً في تحديثات البنية التنظيمية لبيئة الاستثمار وعاملاً إيجابياً في تعزيز كفاءة الأجهزة الرقابية والإشرافية وهو ما كانت الأسواق بحاجته على نحوٍ ملحّ بسبب التجدد المستمر في طبيعة التعاملات التجارية والتنوع الكبير لقطاعاتٍ وأنشطةٍ عريضة تتطلب مرونة في اختصاصات وصلاحيات الجهاز الإشرافي على هكذا قطاعات، إذ إن أكثر ما يعيق الأجهزة الرقابية عادةً هو جمود النص المانح للصلاحيات عن مواكبة المستجدات والمتغيرات التي تفرضها التحولات التقنية والاقتصادية والاجتماعية، بينما تلافى المنظم هنا هذا العائق ليتيح لمجلس الإدارة ألواناً متعددة من الصلاحيات والأدوار والأدوات الإشرافية لتحقيق أهداف المنافسة العادلة ومكافحة الممارسات الاحتكارية التي قد يقف خلفها هي الأخرى سينمائيون محترفون في عالم التجارة -إن صح هذا التعبير-! إذ قد لا يتوانى التاجر أحياناً إزاء إقصاء منافسه أو منافسٍ محتمل أن يحبك أعقد التراجيديات المسرحية ليتملص من رقابة العدالة، وسلة اختصاصات المجلس لمكافحة هذا النوع المعقد من المخالفات تعد واحدة من حلول التشريعات المتطورة التي تواكب مستجدات التنمية وتمتلك كل الأداوت التي تكشف بها منعطفات الحبكة الدرامية للممارسات الاحتكارية، وتحفظ حقوق الأطراف المتعددة، وتضمن عدالة الفرص التجارية وخلق مناخات جاذبة للاستثمار.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال