الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في كل مرة تحل بِنَا كارثه أو نواجه أزمة نجدنا نتعامل معها وَ كأنها حدث نواجهه لأول مرة! وَ في كل مرة نكتشف أننا نعود من حيث بدأنا وكأننا ندور في حلقة مفرغة ولا نخاطب سوى أنفسنا.
استطاع باحث يدعى “جون موريس” تجميع أكثر من 200 قصة استقاها من ثقافات وأساطير الشعوب القديمة في الصين والهند ومن سكان أميركا الأصليين وما بعدهم، و وجدّ من تحليلها أن 88% من تلك القصص تتحدث عن عائلة قوية، وفي 70% منها ينجو الناس من الفيضانات بإستخدام القوارب، وفي 67% منها تنجو الحيوانات الأليفة باستخدام القوارب أيضاً، ونحو 66% منها يحدث بسبب خبث الإنسان وضلاله، وينتهي 57% منها بأن تصبح سفينة الإنقاذ عالقة على قمة جبل! وقد يكون لنا في قصة سفينة نوح عليه السلام عظة!
لقد بقي الناس يتداولون هذا السؤال منذ آلاف السنين، وكثيراً ما كانوا يتناقلون القصص والحكايات التي تحاول ربط الكوارث الطبيعية بمعانٍ وإيحاءات معينة، ويبدو أن كل الأساطير المتعلقة بالفيضانات متشابهة وتكرر بعضها البعض على مر السنين، والتساؤل هنا: هل ثمة ما يمكن للمرء أن يتعلمه من السيول وَ الأمطار التي أصبحت مع سقوط أول نقطه مصدر رعب لنا جميعاً؟!
لا سامحّ الله الفساد وَ القائمين عليه، قبل سنوات كتبت في مقال سابق بعنوان: “الفساد الراقي” أنّ الفساد لا ينتشر ولا يتكاثر سوى في الأماكن التي يكسوها العفن، له رائحة كريهة نفاثة، نَشًتمُها ونتأكد من انتشارها ولكن لا نراها، ينتشر مثل النار، له عيون يرى بها، وأيدي خفية تمتد لتفتك بكل ما حولها في ظل غياب الرقابة .. والعقاب .. والرادع .. فعندما تصبح مصطلحات اللغة في منشأة ما هي: المحسوبية ،، القبلية ،، الشللية وأن قرابة الدم من أول معايير الكفاءة لديها فتلك مؤشرات أولية لأعراض تفشي الفساد الذي يعد ( ماركة مسجله ) لشركات تدار بمفهوم “الإدارة الشللية”
والشللية ليست خروج عن المألوف ولكنها مُخرج من مُخرجات المنشأة ذاتها لغياب ( العدالة الفكرية الثقافية ) وإفتقاد المعايير التي نحكم من خلالها على الأشخاص حكماً صحيحاً لا يخضع لأي مؤثرات، فهي منشأه ترقد في سبات عميق، وبالتالي يتكون لدينا شخصيات تملُـقــيـة.. وكائنات تسـلُـقـيـة، وصلت لمناصب أكبر منها بمجهود من نوع خاص وتستميت في الحفاظ عليها، فساد مُمنهج له معايير ومبادئ، ومن أهم مبادئه منح من لا يستحق مالا يستحق، ومن يستحق مالا يستحق، وانعدام الأخلاق وموت الضمير ، والحماس إلى إدارة كل ما هو عفن قذر.. كما أنها تعتمد على مبدأ (التوريث المناصبي ).
ومن أهم أنماط الشللية أنها تبدأ اجتماعاتها بعد العشاء وحتى ساعات الصباح الأولى، كما تتم جدولة أعمالها وتوزيع المهام على مائدة (لعبة البلوت) بين اللال.. الكاله.. و الشيريا.. وعلى إيقاع (الصن.. والحكم ) وهي إدارة متفردة متميزة لا تتبع مبادئ الإدارة كعوامل الإنتاج وغيرها.. ولكنها تعتمد على استغلال العلاقات المثمرة بفعالية وكفاءة للوصول إلى أفضل النتائج بأقل الإمكانيات والخسائر!!
فإدارة الشللية لها أهداف مرسومة تسير حسب رؤية واضحة ولها تواجد ملموس على مستوى القطاع الخاص والحكومي – الذي تتمركز فيه بكثافة – وهي (شللية مدعومة ) تعمل على إرتكازات معينة داخل الإدارات الأساسية التي تتعلق باتخاذ القرار مثل: الإدارة المالية.. والموارد البشرية وغيرها، والغريب في الأمر أن قادة هذه الشلل من صغار الموظفين واللذين يعملون في قاعدة الهرم الوظيفي!! ولكنهم ذوي نفوذ عالي وكلمة لا تسقط.. وقد يتبادر إلى أذهاننا سؤال!! وهو كيف استطاعت هذه الطبقة من العاملين الوصول الى مراكز القرار؟! ولماذا؟!
حقيقة الأمر هم يقدمون فروض الولاء والطاعة للمسؤول المباشر عن المكاتب الإدارية العليا ويلبون كل طلباتهم الشخصية من ولائم وحفلات وهدايا ومبالغ وغيرها، وبالتالي ترد لهم خدماتهم الجليلة عن طريق تحقيق مطالبهم وخدماتهم التي لا يملك معها المسؤول إلا ان يوافق عليها ويلغي أمامها مبدأ أو نية الرفض، وإلا قطعت عنه كل تلك الخدمات !! (أمسكلي واقطعلك ) وطبعاً هم شلة راقيه تربطها روابط متينة يتخللها الوفاء اللامحدود مع المحافظة على سرية العلاقة ومثاليتها !!
وهي أحزاب وكل حزب له قائد ويجمع هؤلاء القادة ميثاق واحد مشترك وهو (الفساد الراقي) وللتخلص من هذه الظاهرة لابد من وضع أهداف مرحلية ورؤية طويلة المدى للمنشآت مع تطبيق نظام الأربع سنوات الذي يطبق على رؤساء الإدارات والوزراء وذوي الشأن بعدالة وعلى منهجية تساوي الفرص، من الضروري تفعيل دورة الرقابة والتفتيش بصفة دورية وتقييم السلبيات والإنحرافات داخل المنشآت مع مراعاة التفاعل مع ماتقدمه وسائل الإعلام من شكاوى واقتراحات وعدم التهاون بها ومحاسبة المقصرين وإلغاء فكر التعتيم الإعلامي وهذا ما بدأت الدولة وضع قواعده وتنفيذه حزم.
ولابد من تطوير مدارك المدراء عن طريق البرامج التأهيلية وإضافة كل ماهو جديد إلى معلوماتهم والاختيار حسب الكفاءة والتركيز على الشللية الإيجابية بتشجيع إدارة المواهب والإبداع. وأتوجه هنا بسؤال لكل مديرعام ..رئيس منشأة.. أو معالي، هل حاولت يا سيدي أن تقضي على هذا الوباء ؟! هل حاولت أن تجرب فكر الخصخصة ولكن هذه المرة خصخصة من نوع آخر.. خصخصة للشللية ومحاربتها وزرع فكر المنافسة ..؟!!
والحقيقة لابد من إعادة تدوير الأزمات والكوارث وتحويلها إلى فوائد لنقضي بها على خوفنا من مواجهتها والوقوف لها نداً لـ ند حتى نحول تلك التهديدات إلى فرص تصنع المستقبل، والحقيقة كثير من التجارب العالمية نجحت في التصدي لأزماتها من خلال إيجاد حلول جذرية لها والإستفادة من أزماتها، حقيقة في الوقت الذي نضع فيه أيدينا على قلوبنا في انتظار حجم الدمار الذي ستلحقه بنا الأمطار، يستخدم آخرون أيديهم في البحث عن حلول للمشكلات وتحويلها إلى نقاط قوة تخدم المجتمع وتحافظ عليه، لقد كان للحضارة الإسلامية دور في معالجة الآثار السلبية لتدفق مياه الأمطار، فلا تزال أسقف البنايات القديمة بمدينة القيروان التونسية شاهدة على عظمة حضارة بلاد الأندلس، فقد صممت بوجود ميل معين يسمح بنزول مياه المطر في خزانات، لتستخدم فيما بعد كمياه للشرب.
ومن التجارب العالمية في هذا المحال تجربة المانيا التي أستطاعت تطوير بنيتها التحتية الخضراء اعتمادًا على مياه الأمطار، وأصبحت مدنها من أكثر المدن الخضراء في العالم وأسطح مبانيها تكتسي باللون الأخضر، بفضل النظام الذي يعتمد على مواسير موزعة حول المنازل تستقبل مياه الأمطار وتخزنها لاستخدامها في أعمال التشجير والري. كما أن ولاية كاليفورنيا تمكنت من القضاء على مشاكل مياه الأمطار نهائيًا عن طريق إنشاء مصارف على جانبي الشوارع، وفوق الأرصفة تتصل مباشرة بشبكة صرف متكاملة أسفل شوارع المدينة بالتوازي مع شبكات الصرف الصحي، والحفاظ على صيانتها بشكل دوري، للحفاظ على المياه التي يعاد استخدامها مرة أخرى.
وأنفقت مدينة شيكاغو الأمريكية مبلغ يقدر بـ 3.1 مليار دولار من أجل بناء خزانات كبيرة للمياه تحت المدينة للحفاظ على المياه، ولعدم وجود مصارف في البحار أو مناطق لصرف المياه داخل الولاية، وتمتلك الكثير من الدول الأوروبية، مثل “السويد وفرنسا”، مجاري كبيرة لتجميع المياه أسفل الطرق، ويتم تركيزها في مجمعات كبيرة ويتم ضخها لمركز خارج المدينة للتخزين، لأن مياه الأمطار هي مياه نظيفة ويمكن بعد تنقيتها إعادة توزيعها للسكان كمياه شرب نظيفة ومعقمة.
وتعتبر ماليزيا من الدول التي تغلبت على مشكلة السيول بطريقة مبتكرة، حيث أنشأت النفق الذكي الذي ساهم في حل مشكلة مرورية كبيرة في كوالالمبور، ويتم غلقه أمام السيارات وتحويله إلى مصرف كبير لمياه الأمطار إلى خارج المدينة، وبذلك حل مشكلتين ضخمتين في الوقت ذاته، هذا النفق اسمه الطريق الذكي، طوله حوالي سبعه كيلو مترات، ومكون من ثلاثة طبقات، الطابق السفلي مجرى نهر والطبقيتن العلويتين ، واحد طريق مزدوج للداخل الى وسط المدينة والآخر مزدوج أيضاً للخارج في طريقه للمطار و المنطقة الإدارية والتقنية، أما تكلفة المشروع بكامل تحدياته الطبيعية كانت في حدود 500.000.000 رينجت (عندما كانت قيمة الريال أعلى بكثير من قيمة الرنجت) وفي حالة الأمطار الغزيرة ، يقفل ويصبح نهر تصريف ذو ثلاثة طبقات.
وتظل المشكلة الأكبر في مواجهة الكوارث لدينا هي الهروب من المسؤولية والشللية والفساد والتكسب من المكتسبات والمال العام، وما يجعل الوضع أكثر تعقيدًا، فالمسئول عن مواجهة مشكلة تصريف مياه الأمطار غير محدد هل هي الأمانات أم الشركات القائمة على المشاريع وضعف الرقابة والذمم الضعيفه أمام أهوائها وانعدام الضمير والمسؤولية فالكل يلقي بكرة اللهب في ملعب الآخر والضحية المواطن والدولة.
وفِي الختام من التساؤلات المهمة: لماذا نصرف المليارات على تحلية مياه البحر في الوقت الذي يمكننا فيه إستغلال مياه الأمطار الموسمية والإستفادة منها دون مقابل؟! لماذا لا تستغل في إنتاج الطاقة الكهرومائية وتخزينها؟! لدينا مساحات شاسعه من الأراضي الغير مستغله، لماذا لا نحولها إلى أنهار صناعية للإستفادة من مياه الأمطار؟!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال