الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ذكر صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان في مقابلته الأشهر مع الصحيفة نيورك تايمز قبل أيام أن الفساد من الطبقتين العليا والكادحة يختلس 10٪ من الإنفاق الحكومي ، ولا شك أن ما ذكره سموه بناء على معلومات وبيانات . والإختلاس يعني السرقة المباشرة ، فإن تلك النسبة كبيرة وتمثل مبلغا مهولا قام الأستاذ إحسان بو حليقة بحسابه بطريقته فوجده قريبا من 1.4 تريليون ريال.
أقول لو أن ذلك المبلغ المهول هو ما تم إختلاسه من الميزانية العامة للدولة فحسب فيجب علينا ان نسجد لله شكرا ، وأن نفاخر بأنفسنا لأننا بذلك نتربع على قمة الدول الأقل فسادا في العالم ، لكن تلك النسبة ما هي إلا رأس جبل الجليد فقط وليعذرني الامير في الاختلاف مع النسبة التي ذكرها سموه.
بداية اعتقد أن تلك النسبة تمثل ما أُخذ مباشرة من الميزانية نقدا دون أن يتجه إلى المشاريع بأي شكل من الأشكال أو تم صرفه على مشاريع وهمية . مع ذلك الحكومة وعلى لسان معالي النائب العام تسعى لإسترجاع 100 مليار دولار أي ما يمثل ثلث المبلغ المنهوب بحساب نسبة 10% .
كل ذلك ليس ذا قيمة حقيقية برأيي الكارثة الحقيقية التي تسبب فيها الفساد ليس الأموال التي نهبها الفاسدون على ضخامتها والتي تتجاوز 10% بكثير . فالإختلاس الذي يبدأ بوزير ما، لن يتوقف إلا عند أصغر عامل في أدنى مشروع من مشاريع وزارته . والإختلاس الذي يبدأ بوزير أو مسؤول كبير فإنه سيكون كبيرا جدا ، وقد لايكون نقدا فقط بل يشمل الأدوات والمواصفات والجودة والوقت والعمر الإفتراضي للمشروع ، وما المشاريع المتعثرة في كل مكان إلا شواهد على قبور الأمانة التي ضيعت والأموال التي نهبت بكل صورها .
الكارثة الحقيقة التي تسبب بها الفساد ليست كل ذلك على فضاعته، بل هي الفكر الذي أسسه في كل مكان ليصبح الفساد في العمل الإداري هو القاعدة ، حتى سمعنا من يحلل (نهب) المال العام بقوله “الأخذ من بيت مال المسلمين جائز” ومن يقول “ولد فقر” لمن يتعفف عن المال العام ، و”ما فيه خير ” لمن لا يقدم قرابته ومعارفه على النظام و”ما تعرف تسوي زيهم وتسكت” لمن جاءه مبلغ عن سرقات وإختلاس من المال العام. ولعل حادثتي الألف فيزا وصحة الباحة التي ادين فيهما أول الأمر الُمبلغان اللذان كانا يريدان الخير وحماية المال العام شاهدتان على ما وصل له الفساد من قوة وسيطرة .
ليست مسألة 10% فحسب انه فكر خطير نزع البركة والخير من المليارات التي تُنفق كل عام على التنمية وكأنها ماء يُصب في أرض سبخة لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فرأينا المشاريع تتهاوى مع أول تجربة قاسية كمطر أو عواصف ، ولا تكمل ربع عمرها الإفتراضي حتى تحتاج للتغيير والتطوير لسوء تنفيذها . ورأينا من يتسلم مناصب ليست له ليكرس الفساد نفسه ويحمي مستقبله . المسألة أكبر من 10% من الإنفاق العام التي يأخذها الفساد جهارا نهارا دون خوف أو حياء .
الحكايات والقصص عن الفساد لن تكفيها كتب فضلا عن مقال ، والحديث عن الأموال فقط لن يحل المشكلة ، بل لن يؤثر فيها . كتبت هنا في صحيفة مال في مقال سابق عن نزع بذور الفساد على هذا الرابط http://www.maaal.com/archives/20171114/99327
وما لم يتم محاصرة ذلك الفكر كما يحاصر فكر الإرهاب بل أشد فلن تنجح كل خططنا المستقبلية كما أكد خادم الحرمين الشريفين على لسان سمو الأمير في نفس المقابلة “أننا لن نبقى في مجموعة العشرين مع كل هذا الفساد” وتلك هي الحقيقة .
وكل ما سيفعله الفساد مع كل بداية حرب عليه أن يختبئ قليلا حتى تهدأ العاصفة ثم يعود لما كان عليه، لكن هذه المرة الوضع يختلف لأن الحرب على الفساد بدأت من الأعلى كما ذكر سمو الأمير وكلنا أمل أن تستمر حتى تنتزع بذوره من الأعماق وتحديدا من فكر المجتمع وثقافة العمل الحكومي .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال