الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الأوفشورنغ مصطلح يقصد به ترحيل الخدمات من خلال إعادة توطين أنشطة الشركات الكبرى الأجنبية في البلدان ذات الأجور المنخفضة حيث يمكنها أن تجد الموارد البشرية اللازمة ذات التكلفة المنخفضة وذلك سعياً من هذه الشركات في الإستفادة من التكاليف المنخفضة جداً لتنفيذ تلك الأنشطة أو الأعمال في تلك الدول لتخفيض التكاليف وتحقيق مزيداً من الأرباح.
يعتمد قطاع الخدمات بشكل أساس على العنصر البشري في ممارسته لأنشطته وأدائه لخدماته على إختلاف أنواعها وتمثل جودة العنصر البشري ومؤهلاته وكفاءته أهمية كبرى وعنصر فارق ومميز بالنسبة لبعض المنشآت التي تندرج تحت هذا القطاع والتي تحكم منتجاتها وما تقدمه من خدمات معايير كثيرة منها ماهو متعلق بالجودة إلا أن شح توفر العنصر البشري عالي الجودة محلياً أو ما يتم إستقطابه للعمل محلياً يمثل تحدياً كبيراً للشركات المحاسبية يحد من قدرتها على النمو أو الوفاء بالتزاماتها التعاقدية لتقديم خدماتها المحاسبية والإستشارية الى كافة المستفيدين.
بينما يرى البعض أن الشح في توفر الموارد البشرية ذات الجودة العالية يمثل تحدياً كبيراً، يرى البعض الآخر أنها فرصة وذلك حسب إستراتيجية كل شركة خاصة في ظل نمو الطلب المتزايد على ماتقدمه تلك الشركات الخدمية المهنية المحاسبية من خدمات وذلك حسب إستراتيجية كل شركة محاسبية، فيذهب من يرى أنها تحدي إلى البحث عن البدائل المتاحة من تقليل الاعتماد على العنصر البشري باستخدام الأنظمة الحاسوبية المتطورة أو بالتعاقد على القيام بجزء أو كامل تلك الأعمال من الباطن مع جهات خارجية توظف موارد بشرية بتكاليف زهيدة بينما يذهب البعض الآخر ممن يرون أنها فرصة وهم الأقلية الى الإستثمار في الموارد البشرية المحلية وتدريبها بالشكل الصحيح وإعطائها الفرصة المستحقة للمسك بزمام الأمور لإكتساب الخبرة والمساهمة في تحقيق مزيد من النمو للشركة المحاسبيه وبشكل مستدام.
بدأت بعض الشركات المحاسبية وخاصة الكبرى منها في تأسيس شركات خارج المملكة وتحديداً في الدول التي تتمتع بموارد بشرية رخيصة أو التعاون مع شركات في تلك الدول والقيام بنقل جزء أو كامل بيانات عملائها من الشركات المحلية الى تلك الشركات والتعاقد معها من الباطن للقيام ببعض أعمال المراجعة أو كاملها حسب ظروف ومتطلبات المراجعة لكل عملية مراجعة حتى تتمكن من الوفاء بالتزاماتها التعاقديّة المتزايدة من الخدمات المهنية للتغلب على عدم قدرتها على توفير الموارد البشرية المحلية وسعياً منها الى تقليل تكاليف تقديم الخدمات المهنية لتحقيق مزيداً من الأرباح.
لا شك أن من حق أي منشأة أن تسعى دائماً الى البحث عن الفرص والبدائل المختلفة المتاحة لتطوير أعمالها وتحسين ربحيتها وأن تلحق بركب العولمة بشرط أن لا يتسبب ذلك في الإضرار بمصالح عملائها وحرمان الأجيال القادمة من خريجي المحاسبة من توفر فرصة العمل والتي يخلقها النمو الكبير الذي يشهده الطلب المتزايد على خدمات المراجعة والزكاة والضريبه والاستشارات المالية والإدارية في ظل ما صدر ويصدر من قوانين وأنظمة جديدة مثل نظام ضريبة القيمة المُضافة وضريبة القيمة الانتقائية ونظام الشركات الجديد والتحول الى المعايير الدولية.
والأهم أن لا تتسبب الخطط المبتكرة لتلك الشركات المحاسبية في الإضرار بمصالح الوطن وإقتصاده من خلال نقل وتسريب معلومات وأسرار شركات وطنية كبرى منها ما هو مدرج في السوق السعودي ومنها ماهي كيانات عائلية كبرى تاريخية وذات ثقل ولها وزنها في اقتصاد الوطن الى جهات خارجية بعضها لا نعلم من يملكها ولا نملك القدرة في التحقق في أنها لن تخرج الى جهات او دول أخرى من خلال إعادة تصديرها أو المتاجرة بها من قبل تلك الجهات الخارجية.
بالنظر الى التوجّه المتزايد لدى تلك الشركات المحاسبية لاستخدام هذا الخيار بالتعاقد من الباطن مع جهات خارجية للقيام بجزء أو كامل أعمال المراجعة والذي وصل الى حد التنافس فيما بينها وكأنها وجدت ضالتها المفقودة، يتسبب هذا المشروع المعلن فقط داخل أروقة تلك الشركات المحاسبية في الكثير من الأضرار على عدة أطراف لعلي أتطرق الى بعض منها.
أولها وأهمها أن كثير من الشركات المحلية الكبرى لديها أسرارها الخاصة بنجاحها ونجاح أنشطتها التجارية والتي تفصح عنها بالتفصيل دفاترها وسجلاتها المحاسبية بينما لا تقوم القوائم المالية المعلنة منها الا بتلخيصها بشكل يصعب على من يطلع عليها الوصول الى تفاصيلها ومن ثم الوصول الى مايقف خلف تلك النتائج المالية والتي لا تظهر الا من خلال التفاصيل الموجودة في الدفاتر والسجلات المحاسبية.
وعند نقل تلك الدفاتر والسجلات المحاسبية او محتوياتها الى جهات خارجية ليس لنا سيطرة عليها ولا نملك القدرة في التحقق من محافظتها على تلك المعلومات المالية الخاصة وبعضها سري تكون مصالح العملاء من الشركات المحلية عرضة للضرر الكبير من خلال وقوعها في أيدي شركات خارجية منافسة أو خروجها الى دول أخرى بواسطة تلك الجهات وهو في جميع الأحوال خطر محتمل قائم وبشكل كبير وقد يتسبب لبعض الشركات الكبرى الوطنية الناجحة بفقدان أسرار نجاحها وضعف أدائها المستقبلي ومن ثم إنعكاس أثر ذلك السلبي على اقتصاد الوطن ككل. كما أنه يمثل إخلال بالإتفاق الضمني بين العملاء وتلك الشركات المحاسبية بالمحافظة على سرية ما يقدم لهم من بيانات ووثائق مالية.
ثانياً بعد أن تم تأسيس الهيئة السعودية للمحاسبين القانونين في عام 1992 واقتصار إصدار تراخيص المحاسبين القانونين على المواطنين سمحت اللائحة التنفيذية لنظام الشركات المهنية بتأسيس شركات مهنية مختلطة بين المهنيين السعودين والشركات المهنية الأجنبية المتخصصة وفق شروط محددة منها وقد يكون أهمها أن تُسهم الشركة المرخصة لها وفق هذه اللائحة في نقل الخبرة والتقنية الفنية وتدريب السعوديين وهو الشرط الذي لا يمكن أن يتحقق مع توجّه تلك الشركات المحاسبية الى تنفيذ بعض أعمالها من خارج المملكة وبإستخدام موارد بشرية أجنبية كما أن الأوفشورنچ يلغي الغرض الذي من أجله تم السماح لتلك الشركات الأجنبية بمشاركة مرخصين سعوديين لممارسة أنشطتها في المملكة.
ثالثاً نقل المعلومات والبيانات الاقتصادية والمالية لعملاء الشركات المحاسبية الى جهات خارجية لمراجعتها وتحليلها والقيام باجراءات المراجعة الأساسية يلغي كثير من الفرص الوظيفية لأبناء الوطن والأجيال الجديدة من خريجي المحاسبة وكذلك أصحاب المكاتب المحاسبية المحلية المبتدئة والذين هم أحق بها من تلك الجهات الخارجية وما توظفه من أبناء جلدتها والتي هي أصلاً في خطر متزايد نتيجة ما تقوم به المكاتب المحاسبية من إستقدام مؤقت لعدد كبير من مراجعي الحسابات من الدول الأسيوية خلال فترة ذروة أعمال المراجعة وتكليفهم بالقيام بأعمال المراجعة بدلاً من إعطاء الفرصة للكوارد الوطنية المؤهلة.
رابعاً تخضع الخدمات التي يقدمها المحاسبين القانونين في المملكة الى مراقبة جودة الأداء من قبل الهيئة السعودية للمحاسبين القانونين (سوكبا) للتحقق من إلتزام المحاسبين بتنفيذ أعمال المراجعة وفق المعايير المحاسبية ومعايير المراجعة المطبقة في المملكة والأنظمة ذات العلاقة بينما السماح لجهات خارجية أجنبية بالقيام ببعض أو كامل أعمال المراجعة لحسابات العملاء يفقد (سوكبا) المقدرة على مراقبة جودة أداء ذلك الجزء من أعمال المراجعة أو تلك العمليات المحولة الى الخارج. كما قد يفقد الشريك المسئول عن عملية المراجعة القدرة على الإلتزام بالمادة السابعة من نظام المحاسبين القانونين في المملكة والتي تنص على أن يقوم بالإشراف على أعمال المراجعة وما قد يسببه ذلك من عقوبة تصل الى حد الإيقاف عن ممارسة المهنة لمدة من الزمن تصل الى ستة أشهر.
خامساً كثيراً ما نسمع عن إحتكارالمكاتب المحاسبية الكبيرة لخدمات المحاسبة والمراجعة والزكاة والضريبة والأعمال الإستشارية وسيطرتها على جزء كبير من سوق هذه الخدمات في المملكة بل وعلى أهم زبائن هذا السوق والتي حاولت (سوكبا) وغيرها من الجهات فك ذلك الإحتكار أو تلك السيطرة ولكنها وحتى تاريخنا هذا لم توفق والأسباب كثيرة وقد أخصص لها مقال منفصل يتناولها بالتفصيل ولعل أهمها وهو مايتعلق بموضوعنا هذا هو أن السماح للمكاتب الكبيرة المملوكة لشركات أجنبية عملاقة أو لديها تحالف وإرتباط مع شركات محاسبية كبرى خارج المملكة توفر لها الدعم الفني وخلافه بالتعاقد من الباطن لتنفيذ أعمال المراجعة خارج المملكة بتكاليف زهيدة يتسبب بعدم تكافؤ الفرص للمكاتب المحلية التي ليس لديها مثل هذه التحالفات والترتيبات عند محاولتها النزول لسوق الخدمات المهنية والمنافسة على أساس عادل ومهني.
سادساً قد تذهب بعض الشركات المحاسبية الشبهه مملوكة بالكامل لشركات أجنبية الى أبعد من ما ذكر أعلاه وتقوم بتحويل أعمال المراجعة وأعمال الخدمات المساندة لها الى خارج المملكة مقابل تكاليف مرتفعة ومبالغ فيها من أجل تخفيض ما تحققه من أرباح ومن ثم تخفيض ما يستحق على أرباحها من ضرائب شركات بنسبة 20% مقابل تكبد ضرائب إستقطاع بنسبة 5% عن ماتدفعه مقابل تلك الأعمال المحولة الى الخارج وهو مايؤدي في نهاية الأمر الى فقدان خزينة الدولة ما نسبته 15% من تلك الأرباح.
بلا شك أن هناك الكثير من الأضرار التي يطول سردها كما قد تختلف أهمية تلك الأضرار من جهة الى أخرى، إلا أنني على قناعة تامة أن الإضرار بأمن الوطن الاقتصادي الناتج عن مثل هذه الممارسة يبقى الضرر الأكبر بالنسبة للجميع والذي يتطلب تظافر جهود كافة الأطراف للتصدي له فوراً وبكل جدية وحتى لا تصبح المكاتب المحاسبية المسجلة في المملكة مجرد مكاتب سماسرة أو تسويق لصالح جهات خارجية وينحصر دورها فقط في الطباعة والتوزيع.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال