الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
حققت الأغذية والمشروبات –التي تعد السلع الرئيسية للهايبرات- النسبة الأعلى في أولويات المستهلك بـ 21.7% من بين 12 قسماً من أقسام السلع والخدمات خلال الأعوام العشرة الأخيرة بحسب تقرير الرقم القياسي لتكلفة المعيشة الصادر عن الهيئة العامة للإحصاء، وهذه الأولوية مرشحةٌ أيضاً للاستقرار في الأعوام القليلة القادمة بسبب التغيرات التي ستطال القطاعات الأخرى وتؤثر على نموها لكونها غير حاجية بالنسبة للمستهلك كالأثاث والسياحة من جهة، ولكونها باهضة الثمن مقارنة بالمصروفات المتفرقة التي تبتلعها عادةً السلعُ الغذائية؛ ما يؤدي بطبيعة الحال إلى استقرار الإنفاق بانخفاض طفيف –ربما- على مجال المنتجات والمواد الغذائية التي تمثل ما يقرب من الـ 44% من حجم سوق التجزئة بالمملكة الذي يحتل بدوره أكثر من 44% من حجم أسواق التجزئة في دول الخليج، ولتحافظ المملكة على الوفرة العالية من المواد الغذائية لتحقيق الاستجابة لحجم الطلب الكبير تستورد قرابة الـ 80% من المدخلات البسيطة لتصنيع المواد الغذائية محلياً، في حين تعادل الأغذية قرابة الـ 15% من إجمالي الواردات وفقاً لتقرير “الجزيرة كابيتال حول قطاع الأغذية يوليو 2017”.
وفي استطلاع أجرته غرفة الرياض “نشرته صحيفة الاقتصادية 12 يونيو 2017” أوعز 385 من المستثمرين سبب “جاذبية بيئة الاستثمار في قطاع التجزئة” إلى ارتفاع القوة الشرائية لجمهور المستهلكين بالأسواق السعودية و 26% إلى تعدد أذواق المستهلكين نتيجة تعدد جنسيات المقيمين، إضافة إلى أسباب أخرى كانخفاض قيمة التعرفة الجمركية على البضائع المستوردة من الخارج، وعند ضم هذه المؤشرات إلى تحليل معطيات الإصلاحات الهيكلية للقطاع الخاص وتوقعات آثار رفع الدعم عن الطاقة وتطبيقات أنظمة العمل والتوطين، نجد أنها عززت -بين اللاعبين النشطين في أسواق التجزئة- الرغبة في السيطرة والصراع على العميل، وبالوقت ذاته أسهمت في تقليص فرص دخول التجار الجدد إلى أسواق التجزئة رغم ربحيتها؛ ما جعل قطاع التجزئة بشكل عام وسلاسل المتاجر الكبرى “الهايبر ماركت” على جهة الخصوص حقلاً مثيراً للتساؤلات عن مدى العلاقة التفاوضية مع هذا النشاط من قبل منتجِين أو موردين مستقلين.
من هنا: هل راودك شعور غريب وأنت تتنقل في إحدى الهايبرات بين الأرفف والممرات تبحث عن منتجك المفضل فلا تجده ثم تجد عوضاً عنه منتجات بوفرات وعروض مغرية سيما إذا كان منتجك المفضل أشهر من نار على علم؟!
أعتقدُ أن أمراً ما يحدث في أسواق التجزئة بمختلف أنشطتها، وفي أسواق السلع الاستهلاكية على جهة الخصوص، إذ تعاني بعض المنتجات من عقبة الوصول إلى المستهلك بسبب التعقيدات والاشتراطات التي تضعها متاجر التجزئة -خصوصاً الكبيرة-، وترجع العملية إلى تفاوت في المراكز التفاوضية النسبية بين المنتِج وتاجر التجزئة من خلال المحاكاة التالية:
يطلب المنتِج أو المورد من الأسواق الكبرى (الهايبرات) عرض منتجاته أسوة بالمنتجات الأخرى، فيكون الهايبر قد قام بصناعة منتجات بديلة سواءً حملت علامته الخاصة Private-label أو حملت علامات أخرى لمنشآتٍ صديقة أو ذراعية أو مهيأة للابتلاع لصالحه لاحقاً أو تكون فعلياً تحت سيطرته من خلال مجالس إداراتها، وبالطبع ستكون كلفة الإنتاج أقل من الـ cost الذي يتكبده المنتِج الأصلي للحفاظ على جودة وأصالة منتجه الشهير، فيتمتع الهايبر بمنتجات بديلة ربما كانت ذات جودة أقل، والأهم في الأمر أنه لم يعد مكافئاً لقوة المنتِج الأصلي التفاوضية بل أصبح هو الأقوى إذ يملك أحقية العرض والتسويق لمنتجه البديل وفرصة تفضيله في الرفوف الرئيسية والواجهات الأمامية، وفي الوقت ذاته يستخدم تلك المنتجات البديلة كأوراق ضغط على المنتجِين الأصليين، فإما أن تخضع منتجات الطرف الآخر لاشتراطاته القاسية والإقصائية أحياناً، وإما أن يملأ أرففه بمنتجاته التي تم تصميمها لتكون بديلة للمنتَج الأصلي، وهكذا تتغير المراكز التنافسية بين المنتجين الأصليين من جهة فيما إذا تم بالفعل إقصاء المنتِج (A) من مجموع المنتِجين الأصليين (B,C,D…)، فضلاً عن دخول الهايبرات كبدلاء منتجِين سباقَ المنافسة، في حين تمت العملية لتمنح المسوِق مزيداً من فرض الاشتراطات وصولاً إلى الممارسات الإقصائية، وهكذا أيضاً تتغير نسب القوة التفاوضية من التقارب بين الطرفين (المنتِجين وسوق التجزئة) إلى أن يكون المنتج الذي لا يملك جسر عبور إلى المستهلك طرفاً ضعيفاً أمام ملاك الأسواق الكبرى، في السابق كان كلٌ من الطرفين محتاج للآخر مما يمنع أياً منهما من فرض اشتراطات غير عادلة وهو الأمر الذي يحدث التوازن في القوة التفاوضية بين الطرفين، إذ إن حاجة كل طرف للآخر تجعله مرتبطاً به ارتباطاً كلياً، يعني أن نشاطه يمكن أن يتوقف تماماً على النشاط الآخر، فكأن كلاً منهما كان يمثل دور الشريك في جذب العملاء لشريكه فـ(السلعة تجذب العميل للهايبر ماركت، والهايبر يجذب العميل للسلعة)، أما اليوم فقد أصبح من الممكن أن تتغير القوة التفاوضية بين هذين الطرفين للحد الذي ربما يخرج فيه أحدهما من السوق.
قد يبدو المشهد جيداً للوهلة الأولى وبالفعل فقد أسهم هذا الأمر في توفير بدائل بأسعار معقولة للمستهلكين بل يعد هذا النوع من الوفورات والتنوعات السلعية والسعرية واحداً من المستهدفات التي تعزز حرية الأسواق وتتيح للمستهلك أكبر شريحة من الخيارات والأسعار، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، فالخطير في هذا النوع من التنافس هو تطوره مستقبلاً إلى حد خروج المنتجِين الأصليين من السوق الواحد تلو الآخر حتى يتحول الهايبر ماركت إلى منتِج (أصلي) ليس من خلال جودة الإنتاج أو أصالته أو تاريخ دخوله النشاط أو القيمة الابتكارية للمنتَج، بل من خلال استحواذه على حصص المنتِجين الأصليين الذي لم يتحملوا وطأة الاشتراطات غير العادلة للمسوقين ومتاجر التجزئة الكبرى، وحينها لن تكون أسعار المنتَج البديل منافِسة كما كانت سابقاً، وقد تصبح أولى ضحايا تلك الممارسات “الصناعات الوطنية” التي هي أحوج ما تكون إلى نقطة التقاء مع المستهلك ومنصة تسويق لبناء الثقة بالصناعة المحلية، والمشكِل في هذا النوع أيضاً هو أن المسوقين ومنافذ البيع بمختلف علاماتها وملكياتها ربما طلبت منتجاتها الخاصة -التي تستخدمها للضغط في التفاوض مع المنتِج الأصلي- من مصانع إنتاج ذات نمط واحد وربما كانت مصانع وهمية لا وجود لها في الداخل، وربما كان مصنعاً واحداً يضخ خمس منتجات (مياه) أو (ورقيات) لخمسة متاجر تجزئة بذات المواصفات وذات الجودة وربما ذات المخاطر، ولكن بتعلبيات وأغلفة مختلفة حسب الطلب، وهنا نكون أمام حالة احتكارية عكسية إذ يتحول هذا المصنع الوهمي الذي لا تتوقف خطوط إنتاجه عن الهدير في الفناء الخلفي لأسواقنا إلى منافسٍ شرس بوسعه أن يقصي جميع المنتجين الأصليين بمختلف مصانعهم ومعاييرهم وأسعارهم ومدخلاتهم البسيطة “الخام” التي يحتاج المستهلك إلى تنوعها وتنوع مصادرها كما في أغذية الأطفال والحمية، ومنتجات الشعر والبشرة.
ومن مشكلات هذه الحالة أيضاً: دخول المنافس في الـ”سوق (X) متجر تجزئة مثلاً” خطَّ المنافسة في “سوق مختلف (Z) صناعة المياه” فأصبح الهايبر ماركت يلعب تحت قناع “منتِج الظل” الذي لا يعاني أعباء المسؤوليات والمعايير والإجراءات التي تتحملها كل صناعة على حدة، في حين سيطر على عدة أسواق خارج نطاق نشاط أسواق التجزئة.
على كلٍ: وإن كان من غير المبكر لتشريعات مكافحة الاحتكار عالمياً أن تجدد مفاهيمها إزاء هذا اللون الرمادي من السيطرة العكسية وأن تعمل على إعادة أطراف الأنشطة التكاملية إلى بقعة المنتصف ومقاربة القوى التفاوضية لنقطة التوازن سيما وهي تشاهد خروج المنتجات الأصلية من السوق دون أن يتوقف نزيف الجودة السلعية؛.
فحتى ذلك الحين ربما يضنيك الدوران بين الممرات والأرفف بحثاً عن منتجك الذي أوصاك به الطبيب، أو تفضله لاعتباراتك الخاصة، وستطالعك عوضاً عنه منتجات المتجر ذاته في كل زاوية كشكل من أشكال الغزو التسويقي، أو ربما وجدت ضالتك بعد جهد جهيد في رف صغير لا تطوله الأيدي ارتفاعاً أو لا ترمقه الأبصار انخفاضاً، أو وجدته في غير مكانه اللائق! وحتى ذلك الحين -أيضاً- ربما كان بوسعي مبكراً أن أقول لك أنك أمام حالة احتكار خفي يمارسه هذا المتجر على أسواقٍ وأنشطةٍ وصناعات أخرى غير سوقه الفعلي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال