الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تحدثت في المقال السابق عن واحدة من صور القوة التفاوضية في أسواق التجزئة من خلال العلامات التجارية الخاصة بالمتجر بائعِ السلع الاستهلاكية Private-label حيث ينقل الطرفُ الأقوى في السوق (x) الحالةَ التنافسية المتكافئة بين عدة لاعبين في السوق (z) إلى مستوى غير عادل؛ المقال هنا.
1- إما من خلال الدخول كمنافس في نشاط (z) في حين يملك أساساً مركزاً تنافسياً قوياً في سوقه الأصلي (x) وفي حين أن المتنافسين في كل من النشاطين محتاج لممارسي النشاط الآخر طبقاً لقيم الاقتصاد التشاركي فأصبح المنافس الذي يمارس النشاطين يغذي نفسه بنفسه ويقدم نفسه “كمنتِج” لنفسه “كمسوِّق”، ومن الطبيعي جداً أن يعطي نفسه في سوقه الأصلي ميزة تنافسية لا يتمتع بها الآخرون، وبالتالي يقصي منافسيه في السوق (z) من خلال ممارسته الأصلية في السوق (x).
2- وإما من خلال فرض الاشتراطات المتعنتة على منافسين دون آخرين (بمعنى التمييز بين المتنافسين المتماثلين في العقود المتشابهة) فيقوم بخلخلة التركيبة التنافسية التي يترتب عليها انتقال الحصص السوقية بسبب ممارساته الشرسة كلاعب خفي يستغل قوته خارج هذا النشاط، حتى يصل الأمر إلى إقصاء بعض اللاعبين لتنتقل حصصهم انتقالاً غير عادل إلى المنافسين الآخرين في أحسن الأحوال أو إلى عدد محدود من المتنافسين الذين عادةً ما يكونون عملاء خاصين أو شركاء أو أذرعة استثمارية لهذا المتحكم الخفي الذي يقوم بالتمييز في تقديم الخدمة بين مكونات النشاط الآخر.
والسؤالان الطبيعيان في هذا الصدد:
أولاً: لماذا لا نرحب بذلك الداخل الجديد إلى السوق بغض النظر عن نشاطه الأصلي؟ خصوصاً إذا ما علمنا انخفاض التكاليف في هذه الحالة قياساً بالمنتجات الأخرى التي يتحمّل المستهلك النهائي كلفةَ انتقالها من نشاط إلى نشاط وصولاً إلى باب منزله (مثال: ينتهي دور المصنع بإنتاج معطف شتوي عند آخر نقطة في خط الإنتاج بتكلفة 30 ريالاً فقط، لكن ممارسي الأنشطة الأخرى الذين سيتعاقبون على هذا المعطف حتى يأخذ مكانه فوق كتفيك سيحمّلونه أيضاً تكاليفهم كلٌ على حدة فالنقل والتسويق ومنافذ بيع الجملة فالتجزئة كلها تكاليف قد تصل بالمعطف إلى المتجر القريب من منزلك بكلفة 120 ريالاً بسبب تنقلات السلعة، كون كل نشاط اقتصر على دوره المحدود سواء في الإنتاج أو التسويق أو التوزيع أو حتى خدمات ما بعد البيع) إذ تكرّس هذه الدورة الإنتاجية بوضوح مدى حاجة الأنشطة لبعضها البعض وامتلاك كل نشاط قوة تفاوضية شبه متكافئة في العلاقات الرأسية، وفي حالة دخول أحدهم على خط الأنشطة ذات العلاقة الرأسية من الأعلى أو الأدنى سيختصر التكاليف الإضافية الناتجة عن استفادة كل نشاط من تمرير السلعة وبالتالي تنخفض التكلفة على المستهلك النهائي.
في الواقع فإن الأمر قد لا يقتصر عند هذا الحد، فبخروج ممارسي النشاط الإضافي بعد استغناء النشاط الأصلي عنهم سيكون المستهلك أمام نوع واحد من الدورة الإنتاجية التي يتحكم بها بالكامل أو شبه الكامل متجر واحد على سبيل المثال، ناهيك عن خسارة الاقتصاد لعوائد الدورة الإنتاجية من التصنيع المحلي والتوطين وخلق فرص العمل والرسوم وغير ذلك، ويزيد الطين بلة عندما يمتلك هذا المتجر سلسلة متاجر وفروع وحصص سوقية مهيمنة، فيصبح العميل النهائي أمام احتكار معقّد رأسياً وأفقياً، فلا تتيح له هذه الحالة خيارات الجودة والتصنيع وتنوع المدخلات البسيطة من ناحية، ولا تنوع الخيارات السعرية من ناحية ثانية، وحينها لن يكون بوسع السوق ولا المستهلك ولا المجتمع كبح جماح الجشع الذي قد يتضاعف على شكل قفزات سعرية مفترسة لا تخجل من النظام ولا من المنافس ولا حتى من العميل الوفي الذي حشمها وعظّم أرباحها على مدى عقود من الزمن يقابله التاجر المتخم بسلوك استغلالي غير مسؤول خاصة في أوقات المواسم.
أما السؤال الثاني: فلماذا لا يتوسع التاجر في منافساته الأفقية في ذات نشاطه الأصلي بدلاً من الدخول على خط الأنشطة الأخرى سيما مع وجود المخاطر العالية في هذا النوع من التوسع؟.
إن لجوء التاجر إلى هذا الأسلوب رغم مخاطره العالية سيمنحه “قوة تفاوضية” إضافية تتيح له فرض شروطه على ممارس النشاط الآخر فإما القبول بالشروط –وربما كانت إقصائية- وإما الاستغناء عنه لكون “المفاوض” نجح في توفير منتج ذاتي أو خدمة ذاتية بديلة، ولنتناول مثالاً آخر على العكس من مثال المقال السابق؛ فلو أن المنتِج أو المورِد هو من اكتسب قوة تفاوضية مكّنته من فرض شروطه الإقصائية على متاجر التجزئة، فتاجر التجزئة المجرد الذي لا يملك القدرة على الإنتاج عبر أسلوب Private-label محتاجٌ إلى ممارسي النشاط الأعلى؛ كون السلعة هي محل نشاطه كمسوق وبدونها لا يجد ما يقدمه للعميل النهائي، إلا أن ممارسي الإنتاج أو التوريد قرروا الدخول على خط سوق التجزئة بأشكال متعددة ولأسباب عديدة أقلها من أجل خلق قوة تفاوضية لفرض سياسة سعرية أو توزيعية على الباعة أو ضمان استدامة وامتداد سياسة المصنِّع منذ أول نقطة في خط الإنتاج وحتى يطرق مندوب التوزيع منزل المستهلك.
في هذه الحالة يقوم المنتِج بتوفير منتجاته عبر التطبيقات الذكية سواءً آلت مليكتها المباشرة للمصنع أو لشركات أجنبية، ملغياً بذلك دور بائع التجزئة ومختصراً على نفسه رسوم الإدراج وشروط العرض حتى لا يظل حبيس رحمة البائعين وسياساتهم التسويقية خصوصاً أولئك المهيمين على سوق التجزئة، ويتطور الأمر حتى يصبح المنتِج بائع تجزئة بامتياز، ورغم أنه لا يزال سوق التجزئة في المملكة متماسكاً ومسيطراً ليس على المستوى المحلي فحسب بل على المستوى الإقليمي إذ يستحوذ على 42% من حجم أسواق التجزئة في منطقة الخليج، إلا أن هذا النوع أيضاً ينمو ويتوسع بوتيرة محرقة لمنافذ البيع التقليدية والمتاجر الصغيرة لتعطي بدورها لمتاجر التجزئة الكبرى فرصة أكبر للسيطرة.
ربما كان من الغريب أن تكون هذه الصورة حلاً عادلاً لسابقتها إلا أن بقاء الأسواق في منطقة التوازن بين الصورتين أمر يصعب التنبوء به سوى بوجود أنظمة متجددة وأدوات رقابة ذات مرونة عالية.
إيجازاً لما سبق: تعد أنماط القوة التفاوضية فرصة لتوازن الأسواق وتمكين العلاقة بين الأنشطة المختلفة، لكنها في الوقت ذاته قد تتجاوز نقطة التوازن إلى (الاحتكار المضاد)؛ فاحتكار مصانع المياه يخلق قوة تفاوضية تضغط على أسواق التجزئة للقبول باشتراطاتها التي قد تؤدي إلى إخراج بعض الهايبرات من السوق عند عدم قدرتها على تحقيق التنوع في عرض المياه المفضلة أمام المستهلك، وإزاء هذه الحالة الاحتكارية تلجأ أسواق التجزئة إلى أسلوب Private-label لصناعة مياه بديلة تحقق لها التوازن في القوة التفاوضية أمام محتكري المياه، إلا أن الأمر قد لا يتوقف عند هذه النقطة فتخلق أسواق التجزئة (حالة احتكار مضادة) تجعل شركات المياه طرفاً ضعيفاً أمام أسواق التجزئة التي قدمت للمستهلك خياراً بديلاً أدى بها لفرض شروط متعنتة على مصانع المياه، وكلا الحالتين ينعكسان سلباً على الأسواق، وبالمثل: احتكار المنتجين للمعطف الشتوي يجعل الباعة أمام خيارات محدودة للقبول باشتراطات المنتِجِين، وحتى يحقق الباعة “قوة تفاوضية” يقومون بالإنتاج الخاص فيخلق هذا الأمر مع الزمن حالات احتكار مضادة إذ يحتكر باعة التجزئة عمليات الإنتاج إضافةً إلى احتكار نشاطهم الأصلي، وعكسه عندما يكون المنتِج أضعف من قوة منافذ البيع التي قد تهوي بالمنتَج إلى العدم، ولخلق التوازن يقوم المنتِج بممارسة نشاط البيع الالكتروني والوصول المباشر إلى المستهلك متجاوزاً نقطة التوازن ليقصي متاجر التجزئة من السوق.
ما يجب أن نخلص إليه من كل ما سبق هو ضرورة مراقبة الأسواق وتتبع العلاقات الاقتصادية بين الأنشطة المختلفة، فخلف كل شروط متعنتة “قوةٌ تفاوضية” تتنامى مع الزمن بطريقة قانونية لتخلق حالة غير قانونية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال