الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عند كل حادثة قتل جماعية في أمريكا ، يتجدد النقاش عندهم حول الحق الدستوري للمواطن الأمريكي في حمل السلاح والتفسيرات المتباينة للنص الدستوري و تعارض مصالح الأحزاب ، في حين أنه يتجدد لدى القارئ العربي البعيد عن هذه الأحداث؛ التساؤل عن مصدر هذا الحق و ما هو المنطق الذي تأسس عليه ، و لماذا لم يتم ضبط هذه الفوضوية التي تزهق أرواح الأبرياء لا سيما أطفال المدارس.
لذا لعلي أوضح ما يهمنا في هذا الموضوع أولاً ، ثم أعرّج على قضية الفاصلة المثيرة للجدل وكيف كانت أحكام المحكمة العليا تدور حول هذه الفاصلة ، وهل صارت قضية أو حق حمل السلاح مرتهن بهذه الفاصلة ،، كيف تناقش المحكمة هذه القضية الجدلية و تقدم التفسيرات التي تؤديها هذه الفاصلة ومدى صحة وجود فواصل أخرى وأثرها في اختلاف التفسير، وبالتالي مدى اعتماد القانون على قواعد اللغة المكتوب بها.
تاريخياً ؛ بعد الاتفاق المبدئي على الدستور الأمريكي عام 1788م، ظهر صراع بين الفيدراليين وعلى رأسهم الكسندر هاملتون وجورج واشنطن الذين يؤيدون تعظيم قوة الدولة الفيدرالية حتى لا تطغى عليها الولايات وينفرط عقد الدولة المتحدة، وبين المعارضين للفيدرالية وأشهرهم توماس جيفيرسون؛ الذين يخشون من تسلط الحكومة الفيدرالية وإضعاف قوة الولايات، وكان من نتاج ذلك أن أرغموا الحكومة الفيدرالية عام 1791 على وثيقة الحقوق
Bill of Rights وهي تمثل التعديلات العشرة الأولى في الدستور والهدف منها حماية الفرد والولايات من تغوّل الحكومة الفيدرالية.
أما التعديل الأول فهو الأشهر وهو الذي يدرّس كمادة مستقلة من أهم مواد القانون الدستوري
( 1st Amendment ) ، وقد كفل حرية التعبير و الصحافة و التظاهر وممارسة الشعائر الدينية ، أما التعديل الثاني فهو موضوع هذا المقال وقد نصّ حصرياً على حق حمل السلاح ، وهو مبدأ مأخوذ من القانون الإنجليزي ووثيقة الحقوق (English Bill of Rights of 1689) الذي يعتبره حقاً أصلياً للدفاع عن النفس والدفاع عن الوطن متى لزم الأمر. ونص هذا التعديل هو : ” الميليشيات حسنة التنظيم ضرورية لأمن الدولة الحرة، وحق الناس في اقتناء السلاح وحمله يجب ألا يصادر” و انتقالاً لأمر “الفاصلة الجدلية” ، فإن دارس القانون الأمريكي -سيما الدستوري- أو حتى القاريء العادي يصادفه كثيراً مصطلح
“Founding Fathers” أي: الآباء المؤسسون؛ وهم أهم 7 شخصيات سياسية ساهمت في اتحاد الولايات وكتابة الدستور، و أحياناً يقصد به عدد اقل و غالباً عدد أكبر وهم ممثلو الولايات الذين أمضوا على وثيقة الكونفيدرالية ثم الدستور، و يصل عددهم إلى 55 شخصاً تقريباً وأحياناً يطلق عليهم لقب
“The Framers” باعتبارهم صاغة أو صوّاغ الدستور. وما يعنينا هنا أن تفسير الدستور لدى المحكمة العليا – وما دونها من محاكم- مرتبط دائماً بنص الدستور الذي يفهم منه بداهة أو بما قصده هؤلاء الآباء المؤسسون عند كتابتهم للدستور أو اتفاقهم عليه. فعند اختلاف تفسير نص دستوري ، تعمد المحكمة إلى تحليل نص الدستور وهذا مذهب الـ “Textualists ” و هم أشبه بالظاهرية في تعاملهم مع النص؛ أو ربما ذهبت المحكمة إلى استشفاف مقصد هؤلاء المؤسسين من هذا النص وتفسّره وفقاً لذلك ، و هؤلاء هم الـ “Intentionalists”، و كلا هذين المذهبين برز فيهما أسماء قضاة ذاع صيتهم في التمسك بطرائقهم في التفسير، ومن أشهر النصوصيين أنتون سكاليا ، قاضي المحكمة العليا ما بين (1986-2016). علماً بأن هذين المذهبين أصلهما واحد وهو أنهم جميعاً “Originalists” أي: متمسكين بالأصالة، وهي – هنا- اعتقاد أن نصوص الدستور لها معانيها المقصودة عند وضعها و أنها غير قابلة للتغيير أو التطور مع تغير الظروف الاجتماعية و السياسية. وفي مقابل هذين المذهبين يأتي الـ “Pragmatists” أي: الواقعيين الذين ينظرون إلى مآلات التفسير و تأثيراته على المصالح العامة ، وبالتالي يعتقدون بأنه يتغير ويتطور مع الوقت ووفقاً للظروف والمتغيرات. وإن كان نشأة هذه المصطلحات متأخراً إلا أنه حقيقتها وتطبيقاتها متقدمة تاريخياً ، ومن المفارقات أن يُستخدم مذهب الواقعيين بواسطة الفريق الأول الـ “Originalists” لمصلحة مقصودة ، ففي أول قضية متعلقة بحق السلاح (عام 1875) US v. Cruikshank قَصَرت المحكمة حق السلاح على الميليشيا الرسمية للولايات دون الأفراد ، وذلك لتجريد الأفارقة السود من السلاح ومنعهم من القيام بثورة مسلّحة.
هذه المقدمة الموجزة في مناهج تفسير الدستور، تساعد في إدراك أهمية هذه الفاصلة الدستورية و دورها المحوري في هذه القضية الجدلية.
أما التفسيرات فتدور – بشكل عام – بين معنيين ، أحدهما: أن حق حمل السلاح مقتصر على الميليشيات المنظمة الموجودة في الولايات ، وبالتالي فقوات الأمن الرسمية هي المسموح لها وحدها بالتسلح، وهذا ما جاء في الجملة الأولى من النص الدستوري ، وهذا ما يعرف بالتفسير الجماعي للحق وهو ما يؤيده الديموقراطيون حالياً.
و التفسير الآخر يرتكز على الجملة الأخيرة وهي “حق الناس في اقتناء السلاح وحمله يجب ألا يصادر” ، وهذا بالتفسير الفردي للحق وهو ما يؤيده ويدافع عنه الجمهوريون، وأكبر منظماتهم الداعمة
NRA ” المنظمة الوطنية للسلاح” ومقرها شمال فيرجينيا قريباً من العاصمة واشنطن ، وتعتبر ثالث أقوى مجموعة دعم (Lobby) تأثيراً في صناعة القرار السياسي.
أما كيف أن المعنى اختلف بسبب الفاصلة ؟
فالأصل أن النص الأصلي يحوي فاصلة واحدة، لكن سأضع الفواصل الأخرى إيضاحاً لمواضعها ، وستكون الفاصلة الثانية التي تقسم النص إلى نصفين هي فاصلتنا المقصودة:
” الميليشيات حسنة التنظيم ، ضرورية لأمن الدولة الحرة ، وحق الناس في اقتناء السلاح وحمله ، يجب ألا يصادر”
“A well regulated militia, being necessary to the security of a free state, the right of the people to keep and bear arms, shall not be infringed”
إذن فعدد الفواصل من الجدل الحاصل أيضاً ، فالنسخ تختلف في عدد الفواصل فبعضها فيه ثلاث فواصل وبعضها فاصلتان، لكن نسخة توماس جيفيرسون الرسمية والتي ألحقت بالدستور ليس فيها إلا فاصلة واحدة وهي الفاصلة الثانية (أي بعد كلمة state/ الدولة الحرة)، ذلك لأن بعض النسخ الأصلية الموجودة حالياً كان أرسل للولايات للمصادقة عليها ، وكلها كانت تكتب يدوياً بشكل منفصل. ويرى بعضهم أن جيفيرسون صحح خطأه في الفواصل الثلاث في النسخ المرسلة للولايات وأعادها في النسخة الأخيرة إلى فاصلة واحدة وهي الفاصلة الصحيحة.
في حين أن البعض يرى أن الاهتمام بعلامات الترقيم لم يكن متطوراً ومفهوماً بمثل ما هو عليه استخدامها اليوم لذلك اختلفت النسخ وتفاوتت بشكل كبير من 3 فواصل إلى فاصلة واحدة.
والحقيقة أن لكل فاصلة إضافية معنى جديداً يُحتمل ، لكن الغالب أنها فاصلة واحدة وهي الأكثر تأثيراً على النص. والمعنى المحتمل إذن ، إما : أن الجملة الأولى والإشارة فيها إلى “الميليشيا حسنة التنظيم” هي جملة استفتاحية ، وما بعد الفاصلة وهو “حق الناس في اقتناء السلاح وحمله” جملة تفسيرية وهي المقصودة في هذه النص الدستوري ، وأن الجملة الأولى أوضحت المقصد من حق التسلح لكنها لا تقيد نص الجملة الثانية بأي وجه. والدليل أنه لم يكن يوجد جيش منظم للولايات في ذاك الوقت ، وإنما كل شخص يقتني سلاحاً يحمله و يشارك به في الدفاع عن نفسه وعن وطنه حال الحرب. وهذا تفسير المحكمة العليا الذي استقرت عليه في غالب القضايا الحاسمة في حق حمل السلاح خلال العقود الأخيرة.
أن الجملة الأساسية هي “الميليشيات حسنة التنظيم ضرورية لأمن الدولة الحرة ،،،، وهو حق يجب ألا يصادر” وما بينهما من عبارة “حق الناس في اقتناء السلاح وحمله” جملة اعتراضية توضيحية مفصولة عن الجملة الأساسية بهذه الفواصل، وإلا فالدولة لها الحق في تقييد وتقنين حمل السلاح واقتنائه بدليل أنه في أيام الاستعمار البريطاني كان هناك تقنين لآلية تخزين الأسلحة في المنازل. كما أن معنى “حق الناس” أي الميليشيا المنظمة التي تدافع عن الناس وليس أفراد الناس. وهذا تفسير الـ “Pragmatist” غالباً.
وهذان التفسيران وحججهما، هو ما دارت حوله واحدة من آخر المعارك الدستورية حيال “حق المواطن العادي في حمل واقتناء السلاح” في المحكمة العليا عام 2008 في قضية
( District of Columbia v. Heller) وانتصر فيها الأب الروحي للنصوصيين الـ “Textualists ” القاضي سكاليا بأكثرية 5-4 .
وكان السؤال الرئيسي فيها ؛ هل تقييد مقاطعة كولومبيا لحق السلاح وذلك بسماحها باقتناء السلاح في المنازل دون حمله ، هل يعتبر مخالفاً للتعديل الثاني من الدستور؟.
وقد حكمت المحكمة بعدم دستورية هذا التقييد ، وبالتالي أكدت حق الفرد أو المواطن العادي في حمل السلاح واقتنائه ، وأكدت أن هذا هو ما يفهم من الدستور ولا يعني عدم اعتناء المحكمة بقضايا العنف باستخدام الأسلحة اليدوية.
وحقيقة ، وإن كان يتفاوت تطبيق الولايات لهذا الحق إلا أنه يبقى في إطار الدستور الذي يجيز حمل السلاح واقتنائه ، فلذلك في بعض الولايات يجوز حمل السلاح وإظهاره أمام الجميع بدون الحصول على ترخيص ، وفي ولايات أخرى يلزم الحصول على ترخيص ويسمح بحمله مع عدم إظهاره إلا عند استخدامه للدفاع عن النفس ، وهكذا تختلف التقييدات اليسيرة لكن يبقى السماح بحمله واقتنائه هو الحق الذي لا يمكن أن ينازع ؛ وفقاً للتفسير الذي تقترحه هذه “الفاصلة الأكثر جدلاً في الدستور الأمريكي”.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال