الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الاقتصاد الجديد كما ذكرت في المقالات السابقة، لن يكون إختيارياً، بل سيكون ملزماً للجميع بشكل تدريجي متسارع، والأمة أو الفرد الشاذ عن القاعدة المفروضة لن يتمكن من الوصول إلى الرفاهية في بحر النظام الاقتصادي العالمي الجديد. كما قرأنا في التاريخ عن فترة التحول من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي والتي إرتقت بأمم وسحقت أمم أخرى لتخلفها عن الركب.
عندما نريد أن نحدد دور إدارة المعرفة في ظل النظام الاقتصادي الجديد، لابد من معرفة بعض المصطلحات سأسردها بشكل مختصر وهي في مجملها تعتبر تسلسلاً للعمليات العقلية، أبدأ باللبنة الأولى فيها وهي البيانات Data ويمكن تعريفها بأنها حقائق متوافق عليها ولكن ليس لها معنى واضح، ثم المعلومات Information وهي الناتج من عمليات معالجة لإعطاء معنى واضح للبيانات. وتليها المعرفة Knowledge وهي الناتج من (المعلومات + معرفة الكيفية) أو (Information + Know How)، وصولاً إلى الحكمة Wisdom والتي عرفها Osbeck بأنها ناتج التفاعل بين التفكير الرشيد والتصور الدائم والتجرد من الأحكام المسبقة على الأمور.
وهنا يقودنا التفكير إلى أن جميع المستويات المذكورة أعلاه يمكن للآلة القيام بها بكفاءة عالية ربما تتفوق أحياناً على البشر في نسبة الأخطاء، بل وتقوم بها حالياً في أمور كثيرة في حياتنا اليومية، ولكن الحكمة Wisdom باقية وأتوقع إستمرارها إلى الأبد كميزة بشرية، وبناءً على ذلك فإن الوظائف “الباقية” في العصر القادم ستكون هي القائمة على التفكير، سيبقى المفكرون، وينعدم السطحيون. لذلك فإن مناهج التعليم يجب أن تركز على تنمية مهارات التفكير، وكمثال حي على ذلك، لم يعد هناك داعي لإجبار طفل على حفظ أشعار العصر الجاهلي، بل الأجدى من ذلك أن يدخل في عصف ذهني Brain Storming لإيجاد حل لمعادلة رياضية أو كتابة كود برمجي لبرنامج ما.
أهمية المعرفة في الإقتصاد الجديد ستتضح لنا قطعاً من خلال مؤشرات إقتصادية، سأبدأ إيضاحها بمقولة أرسطو “إن سر النجاح يتمثل في معرفة الأشياء التي لا يعرفها الأخرون”، وكما نعلم أن غياب المعرفة عن المنظمات يؤدي إلى تهديدات ومخاطر كبيرة، فإن توفر هذه المعرفة يقدم للمنظمة فرص كبيرة للتحكم في متغيرات البيئة بوضع خطط قائمة على المعرفة وتنفيذها، وهذا ما قد يخفى على المنظمات الأخرى، ويعطي بطبيعة الحال ميزة تنافسية للمنشأة العارفة. من ناحية أخرى فإن الرفاهية التي نعيشها اليوم هي نتاج مباشر للعنصر المعرفي، والطفرة الكبيرة في التقنيات الحيوية هي أيضاً ناتجة عن إستغلال المعرفة. وكمثال عملي فإن أرباح شركات الإتصالات وتقنية المعلومات في أمريكا يبلغ 43% من أرباح الشركات الأمريكية مجتمعة وتتزايد هذه النسبة بشكل متسارع إضافة للأرقام المخيفة لإندماج شركات مثل “أميركا أون لاين” و”تايم وارنر” والتي تساوي الناتج المحلي لدولة الهند “350 مليار دولار”. كل هذا يدل على أن أكبر استثمار ناجح حالياً وفي العصر القادم، هو الإستثمار المعرفي.
تسويقياً، نجد وصول التاجر إلى المستهلك، بدأ بالتحول كلياً إلى الإنترنت، حتى المحال الكبيرة لبيع المنتجات الإستهلاكية وغيرها بدأت بالتحول تدريجياً إلى متاجر إلكترونية، ويكفى أن أغنى رجل في العالم حالياً هو مؤسس متجر إلكتروني “أمازون”، ذلك على الرغم من أن عدد مستخدمي الإنترنت بالعالم حالياً لا يتعدى 1.5 مليار مستخدم، ولكن العدد متصاعد في ظل الجهود التقنية لإدخال الإنترنت والهواتف الذكية للدول الفقيرة، وقد شاهدنا تجربة ناجحة لذلك في أفريقيا من خلال منطاد قوقل Google الذي يوفر خدمة الإنترنت عالي السرعة، وأيضاً قيام إحدى الشركات الأمريكية الناشئة بطرح خدمة إنترنت عالي السرعة من خلال إطلاق قمر صناعي خاص بها، ومثل هذه الخدمة ربما ستؤدي قريباً لتدمير قطاع توفير الإنترنت بالألياف البصرية، الذي أتلف شوارعنا مع خدمة سيئة وسرعات بطيئة وإنقطاع متكرر.
ولمعرفة موقعنا الحالي من العالم، إطلعت على تقييم وتصنيف عن مدى تعامل الشعوب مع التكنولوجيا، وهي إحصاءات يقدمها الإتحاد الدولي للإتصالات تحت مسمى المؤشر الدولي لتنمية تكنولوجيا المعلومات، وهذا المؤشر يعتمد على ثلاثة أرقام قياسية “النفاذ، الإستعمال، المهارة”، تظهر في طليعة القائمة دول مثل كوريا الجنوبية، الدنمارك، السويد وغيرها، مع تصاعد ملحوظ لدولة أصبحت حديث العالم وهي المملكة العربية السعودية والتي تقع ضمن الخمسين دولة الأولى في هذا التصنيف كما ورد في تقرير رسمي سابق، ولكنني في أقل درجات التفاؤل أتوقع أننا حالياً في 2018 من الدول العشرين الأولى في هذا المؤشر، كما هو مركزنا ضمن الدول العشرين الأقوى إقتصادياً في العالم أجمع G20.
نأتي لناحية المنافسة بين الأمم وصولاً إلى الحرب، نعلم جميعاً بأن الحروب القادمة بين الدول المتحضرة ستكون أغلبها إلكترونية، حيث سيكون أثر تدمير الأنظمة الإلكترونية الحكومية والبنكية لبلد ما، أكبر كثيراً من ضربها بمئات الصواريخ أو حتى القيام بعمليات إنتحارية إرهابية. وشاهدنا مثالاً حياً في الصواريخ “الأضحوكة” التي أطلقها علينا الجيران من “صدام” إلى “الحوثي” والتي لم يتعدى أثر أخرها كسر في “عتبة” رصيف بأحد شوارع الرياض، بينما يصل مدى تدمير الأنظمة الإلكترونية إلى حدوث شلل “معرفي” تام بين جميع مفاصل الدولة وبينها وبين الشعب أيضاً الذي أصبح التعامل الوحيد بالنسبة له مع الحكومة من خلال تطبيق على الهواتف الذكية أو موقع إنترنت والإنعدام شبه التام للبديل التقليدي تدريجياً.
لذلك سنجد أهمية إستراتيجية كبرى لمجال “أمن المعلومات” في العصر القادم. يجسد ذلك في قيام حكومتنا الشابة بتأسيس الإتحاد السيبراني ومن خلاله تم مؤخراً تأسيس كلية متخصصة في أمن المعلومات والبرمجة، وأتوقع أن من ضمن أهداف الإتحاد الغير المعلنة، أن يتم إحتواء هواة التهكير او الإختراق الأخلاقي Ethical Hacking في بيئة غير وظيفية “رياضية السمة” مع علم الجميع أن هؤلاء أو بعضهم سيكونوا نواة للجيش الإلكتروني السعودي الذي ربما سيكون سبباً في حماية الوطن من هجمات إلكترونية قادمة لا سمح الله.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال