الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نعيش اليوم أسلوب جديد في تناول الشؤون العامة وإدارتها وهو ما سيجعلنا نحقق طموحنا في مستويات أعلى في التنمية الاقتصادية والإنتاج الصناعي والتحضر الاجتماعي، وهذا ما أكدّ عليه برنامج “جودة الحياة” الذي يشمل الإقرار بأن التنمية ليست فقط تنمية اقتصادية، وإنما هى تنمية اجتماعية وتنمية ذاتية للأفراد و تنمية للبيئة التى تحيط بهم.
لذا أصبحّ من الضروري الاستفادة من الميزات النسبية للمناطق في تعزيز التنويع المكاني للأنشطة الاقتصادية، فمع التوسع في إنشاء مناطق صناعية وحاضنات للأعمال وللتقنية؛ لتحسين استغلال تلك الميزات، فالتخطيط الاقتصادي يجب أن ينتقل من الاهتمام بـ “القطاعات” إلى الاهتمام بـ “المزايا النسبية” لكل مدينة ومنطقة، بغض النظر عن القطاعات ذات العلاقة، فالتنمية المتوازنة تهتم بالمزايا النسبية لكل منطقة ومدينة ومن ثم العمل على تعزيزها، بحيث تتحول إلى مركز اقتصادي في تلك المزايا، وفي المجموع الشامل للاقتصاد الكلي للبلاد سنجد اقتصادا متوازناً يعتمد بعضه على بعض، فبينما تنتج هذه المدينة شيئا يستهلكه أهالي منطقة أخرى نجد أهل هذه المنطقة يستهلكون إنتاج مناطق أخرى وهكذا يتكاتف المجتمع ويحقق الاقتصاد نموه الذاتي بعيدا عن المؤثرات الخارجية للاقتصاد.
إن الناتج القومي الإجمالي GDP لـ 46 مدينة كوريه سيرتفع إلى ما قيمته 819 مليار دولار في عام 2025 ، وهو ما يمثل 1.5 % من حجم النمو الاقتصادي العالمية، كما أن الصين ستحتل المركز الأول ، فـ 602 من المدن الصينية تشكل ما نسبته 31.2 % من إجمالي النمو الاقتصادي العالمي ، بناتج قومي إجمالي يبلغ 17.1 تريليون دولار، وسوف تليها في الترتيب الولايات المتحدة بناتج قومي إجمالي يبلغ 9.3 تريليون دولار في 244 مدينة ، أو ما نسبته 10.7 % من النمو الاقتصادي العالمي.
ومن المتوقع أن تحتل الهند المركز الثالث بناتج قومي إجمالي يبلغ 2.1 تريليون دولار في 177 مدينة ، وبنسبة 3.7 % من النمو الاقتصادي العالمي، أما البرازيل فستحتل المركز الرابع بناتج قومي إجمالي يبلغ 1.5 تريليون دولار لـ 34 مدينة ، بينما تحتل المكسيك المركز الخامس بناتج إجمالي يبلغ 870 مليار دولار لـ47 مدينة.
ومن بين الاقتصاديات العشرة الكبرى في عام 2025 ، ستشهد ثلاثة اقتصاديات فقط تطوراً وهي اقتصاديات الولايات المتحدة وكوريا والمملكة المتحدة ، بينما ستشكل الدول السبع المتبقية دولاً صاعدة وستشغل 40% من إجمالي النمو الاقتصادي العالمي. إنّ الناتج القومي الإجمالي لـ سيؤول الكورية الذي يقدر بـ 210 مليار دولار ويحتل المركز السابع والعشرين على مستوى العالم في عام 2007 سيرتفع إلى 400 مليار دولار في 2025 ، أي أنه سيصبح أعلى من الناتج القومي الإجمالي للنرويج.
إن التوازن الذي يشار إليه في مصطلح التنمية المتوازنة لا يعني التساوي بالضرورة، فليس المقصود أن تحصل كل مدينة ومنطقة على البنية الاقتصادية نفسها التي حصلت عليها مدينة أخرى، بل المقصود هنا – كما نصت عليه رؤية المملكة 2030 – أن تكتشف كل مدينة ميزاتها النسبية ومن ثم ترتكز عليها في بناء اقتصادها، الذي على أساسه سوف يتم تخصيص البنى التحية الاقتصادية اللازمة من مدن صناعية أو تقنيات متخصصة، فالتفكير على أساس القطاعات الاقتصادية مع تجاهل مراكز نموها الأساسية، سيجعل الكثير من المدن خارج إطار التنمية الاقتصادية الشاملة، وفي نهاية المطاف ستتعزز ظاهرة الهجرة خاصة عند الشباب من المدن التي تفتقد القطاعات المستهدفة إلى المدن التي تزدهر فيها.
فعلى سبيل المثال: كان تركيز الاقتصاد السعودي في السابق على القطاع النفطي والبتروكيماوي، الذي صنعّ مدناً صناعية ومناطق خاصة بهذه القطاعات وهجرة الكفاءات نحو هذه المدن، ونتجّ عن ذلك استبعاد للمدن الأخرى التي ليس لديها قدرة على استقبال هذه القطاعات حتى أصبحت بعيدة عن مسار الحدث الاقتصادي وأصبحت عالة على مشروع التنمية في البلاد ككل، لكن بوضع نموذج التنمية المتوازنة في مساره فإن التركيز على المدن واستكشاف قدراتها الذاتية الكامنة فيها منذ القدم سيولد قيمة اقتصادية تراكمية للبلاد، وستتمكن كل منطقة من إيجاد وظائف كافية لكل الشباب فيها ومن ثم تتراجع ظاهره الهجرة العكسية وتنمو المدن بناءّ على إسهامها الفعلي في الاقتصاد.
الأمثلة على هذا كثيرة جدا، فالمملكة غنية بتنوع جغرافي وهذا ما تمحورت الرؤية حوله وهو بدوره أوجدّ تنوعاً ضخماً في الموارد الاقتصادية، فالمدن على السواحل قادرة على استكشاف كثير من الميزات الصناعية والزراعية فيها إضافة إلى اقتصاد السياحة، وبعض المدن لها خصائص خاصة بها، مثل سهولة استزراع أنواع معينة من الأسماك وتصديرها، وبعض المدن لها ميزات بتوافر معادن مهمة فيها مثل الحديد، ويمكن إنشاء مصانع لصهر وإنتاج الحديد، وبعضها لديها توسع زراعي مهم في التمور أو الزيتون، والبعض الآخر لديها إمكانات ضخمة في الأيدي العاملة، وهناك مساحات شاسعة صالحة لبناء مصانع عالمية.
ورغم أن هذا بعض مما تملكه المدن لدينا من ميزات، إلا أن نجاح التنمية المتوازنة والتحول إلى اقتصاد المدن، يتطلب جهداً كبيراً من الدراسة والتفكير واستكشاف الإمكانات الاقتصادية لكل منطقة والتفكير خارج الصندوق في ذلك.
ومن الرائع أن “رؤية المملكة 2030” قد تنبهت إلى أهمية هذا الموضوع حيث أشارت إلى بناء مناطق خاصة تعتمد على المزايا التنافسية لكل منطقة كـ مشروع نيوم، ومشروع القدية والبحر الأحمر، بحيث تتمتع المناطق التي تكتشف مزاياها الخاصة بأنظمة ولوائح تجارية خاصة، وسيكون من شأن ذلك تعزيز الاستثمارات النوعية في تلك المناطق.
وإذا كانت “رؤية المملكة 2030” قد اهتمت بشكل واضح باقتصاد المدن، كما أن خطط التنمية أشارت إلى ذلك ووضعت لها أهدافها الخاصة، فإنه لا ينقصنا التخطيط ورسم الهدف، لكن التنفيذ هو المحك الأساس في هذا التحول الضروري للاقتصاد الوطني.
المدن جذور التنمية الاقتصادية الوطنية، هذه حقيقة واضحة نغفل عنها في ظل التوجه الكبير نحو التخطيط المركزي باتجاه واحد من أعلى إلى أسفل، ولأن كان هذا النوع من التخطيط ضروري في مرحلة من مراحل بناء الدولة الحديثة وتحقيق التنمية المتوازنة وتوفير البنى التحتية في المدن والمناطق إلا أنه لم يعد مقبولاً الاستمرار على النهج ذاته في ظل النضج الاقتصادي والسياسي، الذي تشهده المجتمعات المحلية بتوافر الكفاءات وتوسع المدن وازدياد عدد سكانها وارتفاع المستوى الثقافي والانفتاح الاقتصادي والتواصل العالمي.
وبالتالي فإنّ كل ذلك يتطلب مدناً قادرة على المنافسة ليس داخل الدولة وإنما مع مدن عالمية ما يجعل المنافسة أشد ضراوة وتمثل تحديا كبيراً وهذا ما التفت إليه “برنامج جودة الحياة” الذي يعتبر احد برامج الرؤية التي يشرف عليها عرابها الأمير محمد بن سلمان ولي العهد وتحت توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ، فلقد ولى عصر حماية الدولة للصناعات الوطنية وأصبح على المدن الاعتماد على قدراتها الذاتية وأخذ زمام المبادرة في إنتاج سلع وخدمات تنافسية متميزة تكون هي الوحيدة القادرة على إتقانها وتقديمها بتكاليف أقل.
لقد تحول دور المدن من مستقرات سكنية للعيش والعمل إلى مكان للحراك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي يسهم في التنمية المحلية ورافد للاقتصاد الوطني، وهذا يتطلب نظماً إدارية تمنح المدن الفرصة لصناعة قراراتها وخططها واستراتيجياتها عبر هيئات محلية تتمتع بالاستقلال الإداري والمالي.
إن من المهم أن تتملك المجتمعات المحلية قضاياها وتتحمل مسؤولية تحقيق مصالح سكانها وتتصدى لمشكلاتها وتواجه التحديات برؤية مشتركة ودافعية نحو تحقيق أوضاع أفضل، حقيقة إنه الأسلوب الأمثل ويكاد يكون الوحيد للارتقاء بالاقتصاد الوطني ومعالجة كثير من المشاكل الوطنية التي هي في أساسها محلية فمشاكل الفقر الحضري والإرهاب والسطو المسلح والمخدرات والازدحام المروري والنقل العام والتلوث والمذهبية وغيرها من المشاكل خرجت من رحم الأحياء السكنية لذلك لابد من الهيئات المحلية أن تكون مسؤولة عن إدارة جميع قطاعات المدينة إدارة شاملة.
فالكثير من هذه المشاكل في أساسها مشاكل اقتصادية وإدارية مردها الإخفاق في توجيه الموارد وتخصيصها حسب أولويات المجتمعات المحلية، ولذا ومع الإنفاق السخي للدولة إلا أنه يبقى هناك فجوة كبيرة بين نوعية وكمية الخدمات واحتياجات سكان المدن بل إن المركزية الشديدة تسلب سكان المدن الدافعية والحماس وتجعلهم سلبيين لا يهتمون بالقضايا العامة المحلية، وفي ظل سيطرة البيروقراطيات العامة على عملية صنع القرار المحلي دون مجالس محلية توجهها وتكون مرجعيتها في وضع السياسات المحلية يكون اهتمام الأجهزة الحكومية المحلية منصباً نحو رضا مسؤوليهم في المركز وليس بالضرورة رضا السكان.
إن وضع الإدارة المحلية يكتنفه الغموض والضبابية فهناك تعدد للمرجعيات وتداخل في الصلاحيات والأدوار وتشرذم إداري، كل قطاع يعزف منفرداً دون تناغم بل إن في بعض الحالات يكون هناك تضاد في السياسات العامة. إن الوضع الإداري المحلي أكثر تشابكاً وتعقيداً من المستوى الوطني وبالتالي على الهيئات أن تحقق التناسق والانسجام والتكامل بين القطاعات المختلفة لمعالجة المشاكل المحلية من جميع الزوايا.
لقد حمل خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله منذ أن كَانَ أميراَ لمنطقة الرياض هذه الرؤية، فلقد أدرك بخبرته الإدارية وحسه السياسي أنه لا فرصة للنجاح في التطوير والتنمية المحلية إلا من خلال هيئة يجتمع تحت سقفها جميع الأجهزة الحكومية وتتمتع بصلاحيات إدارية ومالية فعمد إلى إنشاء الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، التي تعد بحق نموذجاً إدارياً بفكر إداري سعودي.
هكذا أصبحت العاصمة الرياض مدينة عصرية جذابة في زمن قياسي أذهل الكثيرين، مثل هذه التجارب المحلية الفريدة والثرية يلزم الاسترشاد بها في تطوير نظام الإدارة المحلية والاستفادة من الدرس الأهم وهو أن المشاكل والتحديات المحلية تتطلبان حلولاً ومعالجات محلية وليس مركزية كما أن توفير الخدمات العامة ليس من أجل الاستهلاك المعيشي اليومي ولكن أيضا من أجل التنمية المحلية وتكبير التنمية الاقتصادية المحلية.
إن التمييز بين المستويات الإدارية أمر ضروري ومهم فأسلوب واهتمامات وأدوار ومسؤوليات الإدارة المحلية تختلف عن تلك المتعلقة بالأجهزة المركزية فالمسؤولية الأولى لإدارة المجتمعات المحلية هي تطوير وتنمية الاقتصاد المحلي كمنظومة متكاملة يتم فيها توجيه جهود الأجهزة المحلية ومؤسسات القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني وعموم الناس إلى تحقيق الرؤية المشتركة والمصلحة المحلية وبناء اقتصاد محلي يجتذب الاستثمارات ويوفر فرصا وظيفية ذات دخول مرتفعة من خلال شراكته مع الدولة، فلكل مجتمع محلي خصائصه وميزاته وقدراته الاقتصادية والثقافية وقاعدة اقتصادية تكون أساس ومفتاح النمو الاقتصادي ولذا كان استكشاف الإمكانات وتوظيفها في التنمية المحلية جوهر العمل الحكومي المحلي.
من هنا كان لا بد لإدارات المدن من التركيز على قطاع التصدير الذي يجلب مداخيل من خارج الاقتصاد المحلي وليس فقط قطاع الخدمات للاستهلاك داخل المدينة. إن الاستقلال الإداري والمالي لإدارة المدن من شأنه زيادة التنافس بين المجتمعات المحلية ما يؤدي إلى تحسين الخدمات العامة في محاولة لجذب الاستثمارات والصناعات إليها دون غيرها. فالوضع الإداري المحلي الراهن فيه تعطيل للموارد والقدرات المحلية لافتقاد قنوات صنع القرار المحلي التي تربط بين المدخلات والمخرجات، بين الإنفاق والعائد منه، بين الاجتهاد والنتيجة وهذه معضلة كبيرة تبطئ من النمو الاقتصادي على المستويين المحلي والوطني، وفي غمرة استباق الزمن في تنمية وتطوير الاقتصاد الوطني يتم التركيز على المشاريع الوطنية الإستراتيجية لذا لابد من التظر للمتطلبات الإدارية والاقتصادية واستثمار رأس المال البشري.
إنّ من أبرز المبادرات التي ظهرت مؤخراً هو جعل المدن منصة للاقتصاد المشترك (sharing cities)، ويتمثل الهدف الرئيس لهذا التوجه في أن تتمكن إدارة المدينة من تفعيل المشاركة الاقتصادية والاجتماعية التعاونية بين سكان المدينة بما يمكنها من زيادة دخلها عن طريق تطوير برامج وتطبيقات تتيح الفرصة للسكان في مشاركة ممتلكاتهم وحوائجهم لبعضهم البعض بشكلٍ مؤقت، ومن أهم المدن أمستردام التي بدأت كأول مدينة تنفذ هذا الاتجاه في عام 2015مـ ، وهناك بعض المدن بدأت في تطبيق هذا التوجه مؤخراً كميلانو، ولشبونة، بعد أن حققت امستردام نجاحاً كبيراً في الاقتصاد المشترك حيث تمتلك العديد من التطبيقات التي تسمح بالمشاركة وتبادل المنفعة اقتصادياً واجتماعياً بين السكان.
إن النظر للتنمية دون إتاحة الفرصة للإدارات الإقليمية (المناطق) والمحليات للمشاركة في صياغة تلك المشاريع ذات الطبيعة المحلية تقلل من فرص نجاحها، إذ إن سياسات التنمية المتوازنة تستوجب التعرف على آراء وتفضيلات وإمكانات وقدرات المناطق والمحافظات لاختيار ما يناسبها من مشاريع وينسجم مع قدراتها بدلاً من فرض المشاريع باتجاه واحد من أعلى إلى أسفل.
إن التخطيط من أعلى إلى أسفل قد يؤدي إلى عدم استفادة أبناء المنطقة استفادة كاملة، إن الواقع يشير إلى أننا في حاجة للاهتمام باقتصاديات المدن والمناطق أولا وقبل المدن الاقتصادية وألا نكون قد وضعنا العربة أمام الحصان، فالمشاريع التنموية لا تقتصر على النواحي الفنية والاقتصادية وإنما تتطلب هياكل إدارية وسياسية محلية تحولها من رؤى واستراتيجيات على الورق إلى واقع ملموس.
هناك حاجة ماسة لتحول نوعي وإعادة هيكلة إدارية وسياسية وليس تطويراً فنياً تقنياً تكون فيه المدن أكثر قدرة للاستجابة لمتطلبات السكان واحتواء المتغيرات والمستجدات الداخلية والخارجية وأكثر قدرة على المنافسة العالمية، لقد حان الوقت لأن ندرك أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية تبدأ من المدن إلى المستويات الإدارية الأعلى وليس العكس، وهذا ما يجب أن تتنبه له الهيئات.
ختاماً: إنّ أحجام اقتصاديات بعض المدن أكبر من اقتصاديات بعض الدول الكبيرة الحجم نسبيا وهو ما يظهر أهميتها من حيث توليد الثروة وتنميتها، لذا علينا العمل على “تطوير خريطة القوى الإقتصادية للمدن السعودية” فنحن نريد اقتصاد مدن وليسّ مدن اقتصادية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال