الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
قبل أيام ذهبت للتبضع من أحد المتاجر. مررت بعدة محلات تجارية حتى وصلت الى المتجر الذي تبضعت منه حاجتي من السلع. كان في كل تلك المتاجر التي مررت بها رجال بيع من الشباب السعودي وهم في نفس العمر تقريبا. في كل مرة أدخل إلى المتجر وأتعامل مع رجل البيع يستثير فضولي كثيرا ذلك التعامل وحجم تأثيره الغير قابل للمقاومة على مدى استجابتي وإقبالي.
أتذكر أول متجر مررت به كان الشاب مبتسما بدون حماسة، سألني عن حاجتي بطريقة مقتضبة وهو لا يزال مبتسما، بادلته الابتسامة واجبته على سؤاله، ثم بعدها بدأ في البحث عن حاجتي ولكنه لم يحافظ على انتباهي ابدا بل انصرف يتناجى مع زميله في العمل ويتجاذبان الحديث ثم يعود ويلتفت إلي بشكل مفاجئ مبتسما بطريقة كانت غريبة نوعا ما.
بعد فترة عاد إلي ولم يجد السلعة التي أحتاج بنفس الشروط ولم يحاول أبدا نصحي بأي بديل او أي خدمة اخرى تبقيني مهتما بالتبضع منه، خرجت منه لأزور المتجر الآخر الذي يلاصقه تماما دخلت و ألقيت التحية كان الشاب جالسا مع زميل له وكان باب المتجر خلف ظهره تماما اجاب تحيتي دون ان يستدير إلي، وهنا كنت قد خسرت التواصل معه تماما وأصبح السؤال الملح في مخيلتي حتى لو وجدت السلعة لا أجد الأمر مشجعا ابدا للتبضع من هذا المتجر فسألت عن السلعة بطريقة سريعة حتى لا أشعر بتأنيب الضمير فقط، فأجاب دون استدارة أو تواصل وهو يكمل الحديث مع زميله “لا يوجد ما تريد”!!
خرجت من المتجر والأسئلة تدور في مخيلتي كيف لهذا أن يبيع؟ بعد خروجي من هذه التجربة الغريبة الصادمة دخلت المتجر الآخر الذي يليه وقد كانت كلها منافذ بيع مختصة بنفس المجال التجاري. وأنا أضع قدمي على عتبات المتجر التالي إذ بالشاب يسبقني بإلقاء التحية ببشاشة مدهشة وحماسة جذبتني دون إرادة وبادرني بقول “بماذا استطيع خدمتك؟” كان سؤاله البسيط قد وصل لي وأسرني لأنه كان بنبرة صوت مناسبة وبانتباه كامل وتأهب عجيب جاوبته أني اريد السلعة الفلانية، مباشرة قال “نعم لدينا ما تريد لحظات من فضلك”، كان لطفه وانتباهه المستمر جاذبا، بعد فترة وجيزة قال لي سوف تكلفك السلعة كذا، لم أدقق كثيرا أجبته نعم لا مانع!! ابتسم بطريقة هادئة ودافئة ثم بدأ تحضير السلعة لي.
كان يقوم بالعمل بنهم وانتباه أخاذ، اخذ ذلك منه بعض الدقائق ثم رفع رأسه إلي وقال سيأخذ الأمر بعض الوقت تفضل اجلس او اذا اردت اذهب اكمل تسوقك وعد إلي وستجد ما تحتاج جاهزا!! كنت اقول بداخلي هذا الرجل بارع أسرني فعلا بلطفه الصادق، فقلت له لا عليك لدي متسع من الوقت، لحظات بعد ان غاب عني عاد مبتسما بهدوء وقدم إلي السلعة، خرجت منه بعد ان اشتريت السلعة وأنا مشغول جدا بحجم التأثير الذي تركه بي حتى اني لا اذكر التفاصيل الاخرى غير أنه كان اخاذا بهدوئه الجميل!!
أنا متأكد أخي القارئ الكريم أنك قد مررت بتجربة مماثلة لهذه، نعم إنها المهارات الناعمة التي يصعب التدريب عليها وتأتي احيانا جِبٍلة كما تقول بعض الدراسات العلمية. المهارات الناعمة هي تلك التي يمكن عنونتها “بمهارات مراعاة مشاعر الناس”. القائد الفاقد لتلك المهارات قد غابت عنه قدرة التأثير، والعامل أو الموظف او رجل الأعمال الذي يفتقدها نجاحه محدود وان علت قدراته. المهارات الناعمة تُخلًط أحيانا كثيرة بمهارات التواصل الاجتماعي وهذا خلط غير سليم يفقد تلك المهارات محتواها الجميل.
البعض أخطأ الفهم فاعتقد ان المهارات الناعمة تعني كثرة الحديث، او رمي النكت السمجة بشكل مفاجئ، أو الاصرار على العميل او المراجع بإلحاح، أو عرض انواع من البسمات الغريبة التي تثير التساؤل أكثر من انها تجذب. المهارات الناعمة تشمل مهارات التواصل وتجاوزها الى الذكاء العاطفي إلى القدرة على إدراك مشاعر الناس. فرغم ان صاحب المتجر الأول ابتسم لي إلا أن ابتسامته لم تكن جاذبة لأنها كانت جزء من الكتاب او المعايير المطلوبة منه فحجم التواصل كان ضعيف للغاية رغم الابتسام والتلطف. كل منا لديه طريقته في قراءة السلوكيات التي أمامه لكن تبقى المهارات الناعمة لديها القدرة الخارقة في آسر القلوب فكم من مراجع مر بك وجعلك تخدمه بشكل يتجاوز طبيعتك؟ وكم من رجل أعمال غلبك في مفاوضة او تعاقد لقدرته على كسب ثقتك في لحظات؟.
هذه المهارات رغم انها ناعمة إلا أنها سلاح فتاك قادر على تدمير كل الحواجز التي قد تعيق العمل. المهارات الناعمة تجعل مديرك يحترمك جبرا ليس لتزلفك او كثرة طرحك للنكات السمجة او كثرة مجالستك إياه او عرض خدماتك بدون مبرر او اي من ذلك القبيل. المهارات الناعمة تعني قيامك بمهامك بطريقة تميزك بطريقة تكسب بها قلب (عاطفة) مديرك دون قصد لأن القصد أحيانا يفسد شكل العمل فيصبح خشنا للغاية. حاول مراجعة ذاكرتك ستجد الكثير من الأمثلة فذلك زميل في العمل اقترب منك في ضائقة مرت بك وهمز في اذنك “هل تحتاج الى مساعدة؟” أو مدير أتى إليك بعد جهد كبير بذلته واخذ المعاملة ووقع عليها دون تدقيق مرددا “أنا أثق بك وبالجهد الذي شاهدته منك” أو أنك مررت بمراجع او عميل استطاع بسهولة كبيرة جدا ان ينتزع منك كل قدراتك التفاوضية حتى بت اسيرا لقدرته الهائلة في مراعاة شعورك.
كل هذه الاحداث نجدها ولكن للأسف الكثير منا يفتقد تلك المهارات ويخلطها بالتزلف الكاذب والمجاملة الفاضحة واللباقة المصطنعة والالحاح المؤذي. المهارات الناعمة هي نوع من الذكاء فليس لها طريق واحد وانما هي متغيرة بتغير المجال والحال الذي تحدث من خلاله عملية التواصل او التفاعل بين شخصين او أكثر. قد يكون مر بك استاذ في أحد المراحل الدراسية بشكل تلقائي همز في اذنك او تحدث امام زملائك ووبخك ازاء خطأ معين إلا أنك بغرابة كنت تجد ان عاطفتك تجبرك على احترام ما يقول رغم انه توبيخ والتوبيخ غير محبب للنفس.
أذكر مرة أحد الاساتذة الفضلاء وهو يردد فلان طالب غير مجتهد ولكنه ذكي للغاية وبدأ يذكر مناقبة كنت اعرف ذلك الطالب عن قرب ورغم ان الاستاذ كان ينتقد رداءة ادائه العلمي إلا أنه ظل محترما لذلك الاستاذ بل ولا يريد ان يسمع نقدا له، الآن استطيع ان اقول ان ذلك الاستاذ كان بارعا في المهارات الناعمة فليس مجرد دمجه بين النقد والمدح هو المسبب بل حركاته وبسماته ونبرة الصوت واشاراته كلها كانت ذات تأثير خاص به ولا اعتقد ان احدا اخر سيكون له نفس التأثير.
رغم ان الدراسات تفضي الى ان هناك خلاف حول امكانية تدريب الناس على امتلاك هذه المهارات ولكن قطعا هناك امكانية للتطوير. حاول ان تكون ذكي عاطفيا، فزميلك في العمل الذي لا يحب النقد لا تحاول استفزازه دائما بالنقد الممزوج بكمية من النكات لإستثارته، ومديرك العملي جدا لا تحاول ان تكثر الحديث معه وتصطنع اللباقة ظنا منك بقدرتك على كسب وده بل ان صمتك وهدوءك وانجازك هو من سيقنعه فقط. الذكاء العاطفي هنا هو في معرفة ماهية توليفة المشاعر لدى الشخص الاخر أيا كان مدير، عميل، زميل، مراجع، منافس الى اخره. معرفتك بإختلاف الناس وإختلاف مشاعرهم بين وقت و آخر هو اول خطوات الذكاء العاطفي (إدراك مشاعر الناس).
الاستفزاز والإستغفال والإستظراف كلها لا تساوي المهارات الناعمة ولا الذكاء العاطفي بل تضاده تماما أحيانا كثيرة. قد تجد أحد الاشخاص معروف تماما ولديه تواصل كبير مع مختلف الاشخاص ويقال عنه انه صاحب علاقات كثيفه لكن تلك العلاقات كلها بدون تأثير حقيقي وهي محدودة بمحدد المصلحة فقط وهذا بكل تأكيد يفتقد المهارات الناعمة لان المهارات الناعمة أحد اهم مكوناتها المصداقية فمتى اكتُشف أن التلطف مصطنع وردات الفعل مصنوعة كلما كان التأثير عكسي تماما. فغالبا تجد من يمتلكون علاقة مع ذلك الشخص يبادلونه نفس القدر من السلوك فيبتسمون لنكاته ويتجاذبون معه أطراف الحديث ولكن نادرا ما يمتدحون حاله بل قد تجدهم يرون غيابه أحب إليهم من لقاءه.
وفي المقابل تجد شخص آخر في عمل او مجال تجاري، حديثه كثرته موزونه وبسماته ونكاته لها وقع لطيف على النفوس وعلاقاته كثيفه جدا ولكن حجم تأثيرها عميق فكلما مررت بشخص يعرفه تجد انواعا من المديح فهذا يقول “ما شاء الله فلان لديه خلق عالي و بشوش” واخر يقول ” ما شاء الله عليه فلان جلسته لا تمل” وعلى هذا فقس.
خاتمة: بالمهارات الناعمة تستطيع ان تكون مدير حتى وان لم تكن مدير فعلا، تستطيع ان تكون قائد بدون قيادة، تستطيع ان تكون ناجح وان ضعفت الادوات.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال