الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
كثير من التقارير الغربية اليوم تهتم بدراسات الشرق الأوسط وتبحث في كافة المتغيرات السياسية والإقتصادية والأمنية والمتغيرات التي تحدث على كافة الأصعدة من خلال محددات ومؤشرات قد لا ترتبط بالواقع الحقيقي ولا تدرس المؤشرات البيئية بشكل عميق بل تعتمد على ارقام وإحصائيات عامة قد يكون الغرض منها فعلاً دراسات لتوجيه الإهتمام لها، وبعضها مسّيس يستخدم كنوع من التوجيه الإعلامي للمجتمعات المختلفه والتأثير على قرارات الدول وأحياناً وسيلة ضغط اعلامي موجه.
وهناك مراكز أبحاث محلية تنشر دراسات سطحية تهدف إلى التسويق لمنتجاتها من خلال وسائل التواصل الإجتماعي، وتعد مراكز الأبحاث والدراسات محور اهتمام العديد من الدول والمجتمعات الإقتصادية والإجتماعية، لما تمثله من ضرورة أساسية في التعرف على القضايا والظواهر والمتغيرات داخل المجتمع المحلي والبيئة العالمية، كما أن دراستها وتحليلها وترتيب أسبابها ومن ثم بلورة مقترحات أكاديمية تساعد على إيجاد الحلول المناسبة وتقديم التوصيات الاستشرافية. كما أن تلك المراكز جزء رئيسي من صناعة القرار في الدول الغربية وتساهم في برمجة الكثير من السياسات والاستراتيجيات العالمية على جميع المستويات الاقتصادية والتنموية والاجتماعية والتربوية.
لكن رغم هذه الأهمية لا يزال هذا المجال بعيداً عن الاهتمام العربي رغم أن رصد قضايا المنطقة وتحليلها يعتبران من أسياسيات عمل مراكز الأبحاث الغربية وسبب وجودها، لذلك في ظل المتغيرات المحلية والدولية والتحولات الإستراتيجية التي نعيشها اليوم تبرز أهمية مراكز الدراسات الاستراتيجية التي تلعب دوراً هاماً في تعميق الرؤى والتصورات عن القضايا العالمية وانعكاساتها المحلية والاقليمية والدولية.
والتساؤل المهم هو لماذا تعتمد كثير من الدول وبخاصة الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين واليابان على مراكز الدراسات الاستراتيجية لمساعدتها في رسم علاقاتها الدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولماذا تحرص على اختيار أفضل العناصر من الخبراء والمستشارين لتضعهم في خدمة صُنّاع القرار في الإدارات المهمة في الحكومات المركزية؟ هل يمكن لمراكز الدراسات الاستراتيجية وهي في معظمها مؤسسات مستقلة إدارياً ومالياً عن الحكومات أن تقدم رؤية سياسية واقتصادية وعسكرية تخدم في تصوراتها الحكومات بعيداً عن الالتزام أدبياً بدراساتها وأبحاثها المتعددة والمتضاربة أحياناً والمؤثرة أحياناً على سياسات دول أخرى؟
إن مراكز الدراسات الاستراتيجية تمثل بيت الخبرة الاقتصادية والسياسية والفكرية من خلال ما تقدمه من دراسات وبحوث وتقارير متنوعة وإقامة المؤتمرات والندوات حول القضايا العالمية التي تهم وتؤثر على السياسات المحلية أو العلاقات الخارجية. وقدمت مراكز الدراسات الاستراتيجية خدمات عظيمة الفائدة للدول العظمى في رسم سياستها الخارجية والاقتصادية والعسكرية بناء على معطيات علمية واستنتاجات من باحثين وخبراء بعيداً عن الحسابات السياسية التي غالباً ما تكون مسيطرة.
وهناك أنواع مختلفة لتلك المراكز فهناك مراكز دراسات تقنية يديرها في الغالب غربيون وهي أقرب إلى مكاتب دراسات واستشارات، وتتلقى مبالغ خيالية نظير ما تقدمه من اقتراحات ودراسات، وهناك مراكز شبه رسمية تتبع الدول وتحظى بتمويل سخي، وتشتهر هذه المراكز بأنشطتها الكثيرة، وقد تجمع بين مهام مختلفة مثل التفكير وإنجاز الدراسات والنشر والإعلام وتنظيم مؤتمرات وهذه مراكز رغم مهامها المعلنة فإنها تبقى مجرد رجع صدى لرأي الحكومات، وحتى الباحثين في هذه المراكز يحرصون بالدرجة الأولى على التماهي مع موقف الحكومات حتى وإن كان خاطئا، وبالتالي فلا تقدم إضافة ذات شأن لا للحكومات ولا للبحث العلمي.
وأخرى تعد مراكز بحث مستقلة في التنظيم لكنها ممولة جزئيا أو كليا من الحكومات، وهي أيضا ورغم هامش الحرية الذي يتمتع به الباحثون المشتغلون فيها فإنهم لا يستطيعون أن ينجزوا أو يدلوا بما يناقض مواقف الجهات الداعمة. وبعض مراكز الصنف الثالث يطغى عليها الطابع الأيديولوجي أو السياسي، وأخيراً مراكز بحث مستقلة ينشئها باحثون مستقلون وهي تفتقد إلى الشروط الدنيا للعمل، وتتميز بالطابع الشخصي، لذلك لم تستطع أن تقدم حتى الآن إضافة مهمة، ويقتصر عملها على بعض المنشورات والأنشطة المتقطعة والظهور في وسائل الإعلام.انعدام الثقة
إنّ أغلب القرارات التي تتخذها أجهزة الدولة بجميع أركانها الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، لا يمكن أن تتم دون الاسترشاد بالمعلومات وخلاصات دقيقة من مراكز أبحاث سواء رسمية أو غيرها، فدائما ما توجهت الدول العربية والجهات الحكومية وبعض المسؤولين في المراكز القيادية إلى مراكز غربية للاستفادة من أبحاثها، والتساؤل الذي يفرض نفسه دائماً لماذا لا تثق الجهات المحلية والخليجية والعربية بمراكز الدراسات العربية وتتوجه دائماً نحو مراكز الدراسات الغربية لطلب المشورة؟! لماذا حتى الآن نعيش في “متلازمة ماكينزي” دون اي فوائد حقيقية تنعكس على التنمية سوى مبالغ مُهدرة وتنظير يشوش ملامح المستقبل!
إن هذه المعاهد والمراكز المتخصصة في الدراسات الاستراتيجية تقدم خدمة مهمة لصانعي السياسات في البلاد التي تحتضنها حيث تقوم بإجراء الدراسات والبحوث والتقارير وتنظيم المؤتمرات وإصدار الدوريات العلمية المتخصصة في الشئون السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية. ولهذا فإنه وإن كانت معظم تلك المراكز والمعاهد مستقلة عن الحكومات ومراكز القرار إلا أنها تحظى بدعم وتشجيع من الحكومات لما تقدمه من تحليل عميق للقضايا السياسية الدولية وبما تقدمه من تقارير ومعلومات غنية قد تكون بعيدة عن متناول السياسيين والقادة العسكريين. كما أنها تتيح مجالاً واسعاً للسياسيين المتقاعدين في مواصلة دورهم وخدمة بلدهم من خلال المشاركة في نشاطات تلك المراكز سواء بالبحث أو المشاركة في الندوات والمؤتمرات لتقديم رصد وتحليل للظواهر الطارئة وتقديم رؤية استراتيجية تخدم متخذ القرار في تلك الدول.
فإذا كانت كثير من دول العالم في الغرب أو الشرق قد اهتمت بإنشاء مثل هذه المراكز والمعاهد حيث لا يوجد بلد فاعل في منطقة من المناطق أو على مستوى العالم، إلا وقد أنشأ مركزاً أو معهداً للدراسات الاستراتيجية سواء أكان تابعاً للجهات الحكومية مثل وزارات الخارجية أو الدفاع، أو كان مستقلاً أو كان تابعاً للمؤسسات الاكاديمية، إلا أن العالم العربي ـ مع الأسف ـ يفتقر إلى مثل تلك المراكز والمعاهد حيث تعتمد الدول العربية في رسم سياساتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على رؤى نشأت إما في عقول الموظفين المستشارين في وزارات الدفاع والخارجية والاقتصاد أو بناء على ما يصلها من معلومات أو دراسات من مراكز الدراسات الاستراتيجية الدولية في أوروبا وأمريكا، وفي أحيان كثيرة من منظمات دولية مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو منظمات الأمم المتحدة.
وعدا النشاط المحدود لهذين المركزين فهناك غياب شبه تام لمراكز ومعاهد الدراسات الاستراتيجية في معظم الدول العربية سواء الحكومية أو المستقلة، كما أن معظم الجامعات العربية تفتقر للمراكز والمعاهد المتخصصة في الدراسات الاستراتيجية سواء ما يتعلق منها بالقضايا السياسية أو الاقتصادية أو حتى بالدراسات الإسلامية المعاصرة وتأثيرها في الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الدولي.
ان التحولات المتسارعة على الساحة المحلية والدولية والقضايا المعقدة والتحديات الكبيرة التي بدأت تظهر في الأفق للدول الخليجية والعربية والإسلامية مجتمعة أو متفرقة، يجعل من الضروري التحرك في رصد هذه القضايا بطريقة علمية من خلال مراكز للدراسات الاستراتيجية تستقطب أفضل الخبرات المحلية والعربية لإجراء الدراسات والبحوث والتقارير وإصدار المجلات العلمية المتخصصة لتكون رافداً مهماً لأصحاب القرار السياسي والاقتصادي. كما أن المملكة والتي تلعب دوراً مهماً على الساحة الخليجية والعربية والإسلامية والدولية سياسياً واقتصادياً وحضارياً هي بأمس الحاجة إلى تعزيز هذا الدور من خلال إنشاء مراكز متخصصة للدراسات الاستراتيجية سواء في المجالات العسكرية أو الاقتصادية أو في مجال الدراسات الإسلامية المعاصرة. وهذه المراكز قد تكون مؤسسات مستقلة مالياً وإدارياً عن الأجهزة الحكومية ذات العلاقة أو أن تتبع الجامعات السعودية بحيث تستفيد من القدرات الوطنية المتخصصة في تلك الجامعات.
المنطقة العربية والساحة الخليجية اليوم تشهد أزمات على جميع المستويات تفتقر إلى مراكز أبحاث تنظّر وتقدم التوصيات والدراسات الاستشرافية لتجاوز مشاكلها، وتعمل أيضا على توضيح الغموض وشرح ملابسات ملفات كثيرة محلّ جدل في المنطقة، وتقدّمها مراكز الأبحاث الغربية وفق أجندتها الخاصة وفي الأغــلب بعيدا عن الحيـادية والموضوعية، وتستمدّ هذه المؤسسات أهميتها من كونها وسيلة مهمة لصياغة المشاريع والقرارات الحيوية وإحدى أهم أذرع بلورة السياسة الخارجية للدول، وأبرز دليل على ذلك العدد الهائل والمتنوع ومتعدد التخصصات لمراكز الأبحاث الأميركية، التي يتبع عدد كبير منها وكالة الاستخبارات.
وهذا ما يفسر النسبة الضخمة من الموارد المالية والبشرية التي ترصد لهذه المراكز بالمقارنة مع مثيلتها في العالم العربي، ويعتبر عدد مراكز الأبحاث والدراسات في العالم العربي ضئيلا كماً ونوعاً وتمويلاً مقارنة مع حجم الحاجة الكبيرة لمثل هذه المراكز، ووصل حجم تمويل هذه المراكز في الدول العربية إلى أدنى مستوى إذ يصل إلى 1% من ميزانياتها العامة، وأغلب هذه المراكز، على قلّتها، تعاني من مشكلات منها عدم الحياد في تناول القضايا المحلية والإقليمية، وتسلّط العقلية البيروقراطية وعدم المواكبة للمستجد العلمي نظرياً وعملياً.
المشكلة حقيقة لا تكمن في العنصر البشري، حيث توجد في بعض الدول العربية طاقات مهمة، وهناك أيضا خبراء عرب يشتغلون مع مؤسسات بحث أجنبية يمكن استقطابهم، بل في غياب التمويل فالكثير من الدراسات التي تنجزها المراكز الغربية حول بعض القضايا العربية تفتقد إلى الدقة والمصداقية، رغم تكلفتها الباهظة جدا، وهناك أساسيات تجعلنا نبني مراكز دراسات عربية تساعد أصحاب القرار على اتخاذ القرار في الوقت المناسب، وليس فقط وضع سيناريوهات محتملة، كالعنصر البشري المؤهل والمتكامل من خبراء ذوي تكوين نظري عميق وأصحاب تجارب طويلة في الميدان، وأيضاً تمويل سخي غير مشروط، مع هامش واسع من الحرية.
ومن الأمثلة المهمة للمراكز على مستوى العالم وتعتبر مؤثرة في صناعة القرار “معهد بروكنجز” في امريكا، وأيضاً “المعهد الملكي للشئون الدولية-تشاتهام هاوس” في برطانيا ويليها ” مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية” في واشنطن الذي يعد واحداً من أكثر المراكز نشاطاً وتأثيراً في السياسة الأمريكية إذ ينظم المركز نشاطه على هيئة مشاريع لمختلف القضايا العالمية ويضم هيئات ولجاناً متخصصة لكل منطقة جغرافية في العالم.
وهناك “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية” الذي تأسس في عام 1958 في العاصمة البريطانية فإنه يلعب دوراً مهماً في صياغة الرؤية الاستراتيجية لكثير من القضايا السياسية والعسكرية في العالم. فمن خلال نشاطاته والتي أهمها تنظيم المؤتمر السنوي للمعهد والذي يناقش المستجدات العالمية ويعقد في دول مختلفة كل عام، وكذلك يصدر المعهد عدداً من الدوريات المتخصصة وعدداً آخر من النشرات والمطبوعات.
وهناك عدد من مراكز الدراسات الاستراتيجية تحتضنها الجامعات الأمريكية والبريطانية مثل معهد الدراسات الدولية في جامعة كاليفورنيا ـ بيركلي الذي تأسس في عام 1955ويحظى بسمعة جيدة في الدراسات التي تتناول السلام والأمن والتحولات في الاقتصاد العالمي، وكذلك مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة هارفرد الذي تأسس في عام 1954م ويعمل فيه الآن أكثر من 50 أستاذاً ويضم أكثر من 100 طالب للدراسات العليا في برامج لها علاقة بالشرق الأوسط. كما يقوم المركز باستضافة أكثر من 30 عالماً و 150 أستاذاً زائراً في العام والذي يهتم بالدراسات التاريخية منذ نشأة الإسلام وحتى الآن.
كما أن هناك عدداً محدوداً من مراكز الدراسات الاستراتيجية العربية النشطة من أهمها “مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية” في القاهرة والذي يساهم من خلال الدراسات والأبحاث والتقارير العلمية وتنظيم المؤتمرات في مناقشة ورصد القضايا السياسية الدولية والعربية، وكذلك “مركز الإمارات للدراسات الاستراتيجية والبحوث” في أبوظبي والذي يركز بشكل خاص على الدراسات الاقتصادية، وايضاً “مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات” في المملكة العربية السعودية، “مركز دراسات الشرق الأوسط” في المملكة الاْردنية الهاشمية ، و”المعهد الملكي الدراسات الإستراتيجية” في المغرب ، “المركز المصري للدراسات الاقتصادية” في جمهورية مصر العربية، و “مركز عيسى الثقافي” في البحرين و “مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية” في الكويت.
ختاماً: في ظل المتغيرات الإستراتيجية والجيوسياسية والاقتصادية والأمنية وتأثير السياسة اللامتناهي على الاقتصاد في ظل جدلية من سيقود الآخر “الاقتصاد أم السياسه” لابد من التركيز على إنشاء مراكز أبحاث عربية محلية متخصصة لإستشراف وإستقراء المستقبل وأن لا نعتمد على المراكز الغربية المسّيسة التي لا تضيف للتنمية ولا تقود إلى المستقبل، فنحن نملك مخزون فكري يستطيع صياغة وتشخيص المستقبل بعقول وطنية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال