الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ما من شك بأن تعميق اندماج الاقتصاد السعودي في المنظومتين الإقليمية والدولية يعد أحد أهم مستهدفات رؤية 2030 ، فيما يلي ثلاثة عناصر محورية لتحقيق هذا الاندماج ورفع كفاءة وفاعلية الاقتصاد وخلق بيئة جاذبة للاستثمار وتحفيز الشراكات النوعية لزيادة الابتكار وتنويع مصادر الدخل:
أولاً: ضرورة تحرير المصطلحات القانونية في البيئة الاستثمارية من أجل شفافية أكبر ووضوح أفضل للمستثمر الأجنبي؛ إذ ما تزال العديد من المفردات تثير غموضاً والتباساً متكرراً وهو ما يؤثر على شفافية القوانين وسهولة ممارسة الأعمال ليس للمستثمر الأجنبي فحسب، بل أيضاً للمستثمر المحلي وهو ما نلمسه كقانونيين من استفسارات وتساؤلات المستثمرين ورواد الأعمال الذين يشعرون بالفجوة التي تحول دون الفهم الصحيح لبعض النصوص القانونية سيما تلك التي تنفرد بها بعض الأنظمة دون الأخرى ما قد يُفهم على نحو متناقض بالنسبة لغير المتخصص أو المتخصص المبتدئ.
إن وضوح وتحرير المصطلحات بدقة يساعد على اتحاد الأقضية في الوقائع المتماثلة واستقرار الأحكام وهو ما سيؤدي بدوره إلى خفض تدفق القضايا الذي تعاني منه المحاكم بجميع اختصاصاتها ودرجاتها والمحاكم التجارية على نحو ملحوظ؛ حيث إن وصول (الشراكات الاستثمارية، التاجر البسيط، المستهلك) للفهم الدقيق للنص القانوني والمفردة القانونية يكفيه مؤونة اللجوء إلى التقاضي ابتداءً ويساعد المخططين في دراسة جدوى المشاريع الاستثمارية على تفادي الأخطاء والثغرات القانونية المؤثرة على الاستراتيجيات.
إن من المشكلات العالقة في هذا المحور مصطلحاتٌ تثير تعددية المعاني في الترجمة ونقل المحتوى وتحليله لدى المستثمر الأجنبي كـ (التنظيم في مقابلة التشريع)، أو (النظام في مقابلة القانون)، ولست هنا أدعو لإعمال إحدى المصطلحات مقابل تعطيل الأخرى، بل إن تنوع الألفاظ الدالة على مدلولاتها يعد سياقاً لغوياً معتبراً ومتسعاً للباحثين والدارسين والمتحدثين بلا شك. لكنْ فيما يتصل بالبيئة الاستثمارية وإقرار الحقوق وتقرير الالتزامات يغدو من المهم إيضاح ما تعنيه الألفاظ المعتد بها في القضاء ومقاربتها قدر الممكن مع السياق العالمي وتسويق ذلك الاستخدام بطريقة احترافية تقضي على التفاوت التفسيري الكبير لدى مجتمع الأعمال.
ومن هنا أدعوا إلى سن لائحة للتعريف بالاصطلاحات والمعاني المعتد بها قضاءً عند التنازع التجاري، وضوابط استخداماتها وحدود معانيها لتكون مدخلاً للمستثمر لمعرفة مقاصد أي نظام تجاري أو عند صياغة العقود والاتفاقيات في أي ممارسة استثمارية.
ثانياً: تأسيس قاعدة بيانات وطنية تعنى بالمعلومات المعيارية عن الاقتصادات المتقدمة كدول G20 بهدف عمل المقارنات المعلوماتية لمعرفة موقعنا الاقتصادي على الخارطة الدولية والبدء من حيث ما انتهى منه الناجحون لتحفيز صناعاتنا الوطنية ومنشآتنا الكبرى على منافسة الشركات العالمية وزيادة إسهامها في الناتج المحلي مقارنة بمثيلاتها في الدول محل المقارنة.
لقد غدت عمليات المقارنة المعيارية التي توضح مؤشرات السياق العالمي في أي موضوع (benchmark) واحدة من أمثل سبل نقل المعرفة وبناء الخبرة التراكمية سيما في مجال التنمية الاقتصادية إذ تأخذ التجربة بعداً زمنياً غير قصير، وفي حين تحل المقارنات القياسية محل التجربة تصبح بديلاً مثالياً عن تكرار الأخطاء في العمليات المتشابهة، ولتتمكن جامعاتنا ومؤسساتنا ومراكز الأبحاث من توجيه الجهود نحو ابتكارات متقدمة تضيف لوزننا الاقتصادي ولحياتنا الاجتماعية ولموقعنا الجغرافي قيمة نوعية .
ثالثاً: الاستثمار في المعرفة وبناء العقول المؤهلة تأهيلاً كفيلاً بتوطين الصناعات والمهارات النادرة والتقنيات الحديثة، ولن يتأتَّى ذلك بصورته النموذجية التي نطمح من خلالها لأن نجعل من اقتصاد المعرفة بديلاً للاقتصاد الريعي إلا بالإنفاق بسخاء على بناء المعرفة، والبناء يختلف عن الاستقطاب فمع أهمية استقطاب الخبرات والكفاءات المتخصصة كواحد من خطوات التناقل المهني والمهاري وإثراء المعرفة المتخصصة.
إلا أن ذلك لن يكون وحده كافياً لبناء اقتصادٍ معرفيٍ متين يمكن أن يُعتمد عليه لرفع مستوى كفاءة الإنتاج وتعزيز المركز التنافسي للمملكة في المنظومة الدولية بشكل عام، إذ ترحل تلك الخبرات بمجرد انتهاء فترة عملها أو علاقتها التعاقدية ويرحل معها رصيد الخبرة بلمح البصر ما لم يوجد لدى أبنائنا الاستعداد التام لاكتساب المهارات والخبرات من الكفاءات الأجنبية أثناء وجودها خلال فترة عملها.
كما أن من عوائق نقل المعرفة هو أن بعض الخبرات الأجنبية الكسولة التي يتم استقطابها أو الاستعانة بها مؤقتاً لتضيف قيمة إلى مؤسساتنا لا تتشارك مع منسوبي المؤسسة من المواطنين في المعلومات والخبرات ولا تبذل أدنى جهد لذلك، بل قد يكون هذا الكسل المتعمد وسيلة لإطالة عقودها وآجال وظائفها وأعمالها الاستشارية.
والمؤلم أن بعض مؤسساتنا هي الأخرى مصابة بداء الكسل المعرفي ابتداءً من عدم تضمين عقود العمل والمشاريع بنوداً تشترط على الكفاءات تخصيص جزء من برامجها أو مشروعاتها أو ساعات مستشاريها لنقل المعرفة وتوطينها، ويمتد كسل بعض مؤسساتنا إلى درجة إشغال الكفاءات المتخصصة باليوميات الروتينية والأعمال التي لا تتطلب جهداً مهنياً ومهارياً بغية رمي أحمال الموظفين على تلك الكفاءات.
في حين كان من الواجب تحديد خطة زمنية حازمة لنقل الفكر الفني والخبرة المتخصصة ثم الاعتماد على المؤهلين من أبناء المؤسسةالمواطنين الذين يتم تأهيلهم تأهيلاً فنياً نموذجياً.
والحقيقة أني لا أتفهم بقاء بعض الكفاءات الأجنبية في بعض مؤسساتنا مدداً زمنية طويلة تصل لعقود من الزمن -ما عدا بعض التقنيات والأعمال ذات الطبيعة الفنية المتخصصة جداً- ؛ فهل تعجز العشر والعشرون سنة عن نقل ما لدى أولئك الخبراء إلى أبنائنا؟ أم لأننا لم نكن مستعدين لنقل الخبرات وبناء الكفاءات وتوطين التقنيات؟
وعموماً فإن من الملاحظ بأن القطاع العام يشهد مرحلة مهمة للتحول إلى دِعامة فاعلة للتنمية ويسابق الزمن لبناء الكفاءات ومعالجة النتوءات والثغرات التي ربما أسهمت في تقليص دوره المنتظر في رفع كفاءة الاقتصاد.
ما يشهده القطاع العام في سياق مبادرات التحول الوطني وبرامج رؤية 2030 يمنح المستثمر مزيداً من الثقة والطمأنينة بمتانة الاقتصاد وقدرة مؤسسات المنظومة التجارية على تسهيل الإجراءات وخلق بيئة استثمارية آمنة ومتفاعلة وضامنة لشفافية الحقوق وعدالة الالتزامات.
ما تجدر الإشادة به حقاً هو توأمة التغيير بين المنظومتين العدلية والاستثمارية بأسلوب رائع لتحقيق مستهدفات الرؤية ودعم موقع المملكة في مؤشر التنافسية العالمي، سيؤدي هذا التزامن الملحوظ بين المنظومتين إلى تشكيل هوية جديدة للبيئة الاستثمارية تتمتع بالمرونة التجارية والشفافية العدلية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال