الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
سواء قام الحوثيون باستهداف ناقلتي النفط السعوديتين بإيعازمن إيران أم لا، فإنه كان من المتوقع أن تضييق الخناق على إيران لن يجعل إيران تنتقم بوقف صادراتها النفطية، أو بتعطيل الملاحة في مضيق باب السلام الواقع بين عمان وإيران، وإنما ستنتقم في مكان أخر، مثل العراق واليمن. إيران لن تظهر بشكل مباشر أمام اصدقائها وداعميها على أنها مصدر انقطاع امدادات النفط أو ارتفاع أسعاره. وإنما ستحاول أن تظهر بأنها الضحية، والحقيقة، فإن إيران اتقنت هذا الدور بشكل كبير..
وقبل الخوض في تفاصيل ماحصل في مضيق باب المندب، وأثره في أسواق النفطـ لابد من ذكر ثلاثة حقائق هامة:
أولا: مع تزايد دور النفط في الاقتصاد العالمي خلال 100 سنة الماضية، تزايد أيضا دوره السياسي والاستراتيجي، الأمر الذي جعله سببا في حروب وصراعات عدة، كما لعب دورا كبيرا في المقاطعات الاقتصادية، علما أن أكثر دولة استخدمت النفط كسلاح هي الولايات المتحدة الأمريكية. وكون النفط هو مصدر القوة والسيطرة والتمويل، فإن المنشآت النفطية، خاصة الأنابيب، أصبحت هدف المجموعات الارهابية والثورية وأي مجموعة منزعجة من شيء ما، يكون ذلك هدفها وهناك مئات الأدلة من كافة أنحاء العالم على ذلك. لهذا فإن استهداف الحوثيين حاملتي النفط السعودتيين أمس في باب المندب يأتي ضمن تاريخ طويل من هذه الهجمات على المنشآت النفطية من فئات مختلفة حول العالم..
ثانيا، أكثر سياسات دولة أثّرت في أسواق النفط في العالم على مدى 100 سنة الماضية في أسواق النفط هي إيران. فتاريح إيران مليئ بالتقلبات السياسية التي غيرت مسار أسواق النفط عدة مرات، ولعل أشهرها احتلال بريطانيا لإيران وطرد الشاه وتعيين ابنه الشاب محمد رضا بهلوي شاها على إيران، والذي تقبل إهانة البريطانيين لأبيه فأهين في آخر حياته عندما رفضت بريطانيا التي جاءت به للحكم مرتين استقباله عندما طرد في عام 1979، كما رفضت الولايات المتحدة وبقية الدول الأوروبية استقباله، ومات في مصر طريدا شريدا.
وحصل انقلاب محمد مصدق الذي قام بتأميم النفط، فهرب الشاه من إيران، وقامت البحرية البريطانية بمحاصرة الموانئ الإيرانية وتوقف تصدير إيران من النفط تماما. ثم قامت المخابرات الأمريكية بتنظيم انقلاب ضد محمد مصدق بالتعاون مع البريطانيين، وتمت إعادة الشاه إلى الحكم في طهران. ومع عودة الشاه، تم التوقيع على اتفاقية مجحفة جدا مع الشاه ثمنا لعودته للعرش، لدرجة أن إيران كانت عضوا مؤسسا في أوبك بين عامي 1960 و 1979 وليس لديها أي سيطرة على قطاعها النفطي اطلاقا.
ويذكر أن ليلة المقاطعة النفطية التي فرضتها بعص الدول العربية على الولايات المتحدة وهولندا، قامت أوبك برفع أسعار النفط المعلنة بمقدار 70% في المائة بسبب ضغط الشاه، مع أنه رفض أن يشارك في المقاطعة. بعبارة أخرى، سبب ارتفاع الأسعار كان جزءا كبيرا منه بسبب إيران.
ثم جاء اضراب عمال النفط في عام 1978 فارتفعت أسعار النفط، ثم الثورة الإيرانية في 1979 التي نتج عنها تخفيض إنتاج النفط الإيراني من 6 ملايين برميل يوميا إلى 3 ملايين برميل يوميا، ثم بدأت الحرب العراقية الإيرانية في 1980 واستمرت ثماني سنوات، تدمرت فيه بنى النفط التحتية للبلدين. ثم بدأ برنامج إيران النووي الذي نتج عنه مشاكل كثيرة وعقوبات اقتصادية أثرت في امدادات النفط وزادت من ذبذبة أسعار النفط، ومازلنا نرى هذا حتى يومنا هذا. أخيرا جاءت حادثة الهجوم الحوثي على ناقلتي النفط السعوديتين يوم أمس. خلاصة القول، أن هذه الأحداث وأثرها في أسواق النفط جزء من مسلسل طويل عمره قرن كامل!
ثالثا: هذه ليست المرة الأولى التي يتسهدف فيها الحوثيون ناقلات النفط السعودية في مضيق باب المندب، بل كان هناك عدة محاولات سابقة، بعضها نجح في تحقيق اصابات.
مالذي حدث؟
استهدف الحوثيون ناقلتي نفط أو منتجات نفطية سعوديتين من الحجم الكبير تملكهما شركة “بحري” السعودية وتحمل كل منهما مليوني برميل يوميا، وحسب ماذكر فإنه تم اصابة احداهما، ولكن الاصابة كانت طفيفة نسبيا ولم تؤد إلى تسرب نفطي. على أثر ذلك أعلن المهندس خالد الفالح، وزير الطاقة والصناعة والثورة المعدنية بالسعودية تعليق مرور ناقلات النفط في المضيق مؤقتا. ونتج عن ذلك ارتفاع طفيف في الأسعار في الأسواق الأسيوية، ولكن الخبر كان في وقت كانت في الأسواق مغلقة في كل من أوروبا والولايات المتحدة، وبالتالي فقد نرى أثر أكبر في أسواق هذه المناطق عند الافتتاح.
ماهو مضيق باب المندب؟
يربط باب المندب البحر الأحمر من الجنوب بالمحيط الهندي، حيث يقع في منتصف المسافة بين السويس ومومباي، يحده اليمن من الشرق، وإريتريا وجيبوتي من الغرب. ويكتسب المضيق أهميته في عالم النفط من كمية النفط المارة به، والتي تقدر بحدود 4 إلى 5 ملايين برميل يوميا من النفط الخام والمنتجات النفطية، وكونه يقصر المسافة التي تقطعها حاملات النفط بحوالي 60 في المائة، حيث إن إغلاقه سيجبر ناقلات النفط على الدوران حول إفريقيا و سيرفع تكاليف نقل النفط بشكل كبير. ويعد المضيق هدفاً للإرهابيين الذين هاجموا حاملة نفط فرنسية في عام 2002. وعلى الرغم من أنه يمكن لأنبوب النفط السعودي الشرقي الغربي، والذي تصل طاقته الاستيعابية غلى حوالي 4.8 مليون برميل يومياً، أن يغطيه، إلا أن إغلاقه سيؤثر على النفط المتجه جنوبا والقادم من إفريقيا.
يبلغ عرض المضيق حوالي 30 كم تقريبا تتوسطه جزيرة بريم. وتتم الملاحة في الجزء الغربي من المضيق؛ لأنه الأوسع، حيث يبلغ عرضه 25 كلم، ويصل عمقه إلى 310 أمتار، ويطلق عليه اسم “دقة المايون”. أما الجزء الشرقي -ويسمى قناة اسكندر- فهو لا يصلح للملاحة الدولية بسبب ضيقه وسطحية المياه فيه، حيث يبلغ عرضه 3 كم وعمقه في أعمق منطقة 30 متراً. وتمر ناقلات النفط والسفن المختلفة في ممرات عرضها ميلين للسفن الداخلة وميلين للسفن الخارجة.
ما الأثر في أسواق النفط العالمية؟
1- أخبار الهجوم نفسه ترفع أسعار النفط، حتى لو كانت الناقلتين تحملان منتجات نفطية، ولكن أثر خبر وقف السعودية مرور ناقلات النفط أكبر بكثير.
2- أثر وقف السعودية مرور ناقلاتها سيعتمد على فترة الوقف. فإذا كانت لمدة أيام فإن الأثر بسيط، ولكن إذا استمر لأسابيع أو أكثر من ذلك فإن الأثر كبير لأن ناقلات النفط والمنتجات النفطية السعوية المتجهة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية ستضطر إلى الدوران حول افريقيا للوصول إلى غايتها، وهذا يستغرق أسبوعين اضافيين على الأقل. هذا يعني تأخر وصول الامدادات أسبوعين على الاقل، الأمر الذي سيخفض المخزون ويرفع الأسعار. كما قد يؤدي إلى توقف نقل أي مواد نفطية إلى آسيا من الموانيء السعودية في البحر الأحمر.
3- الدوران حول افريقيا (رأس الرجاء الصالح)، يعني زيادة تكاليف النقل، وزيادة الطلب على المنتجات النفطية التي تستهلكها هذه السفن، الأمر الذي سيؤثر في الشركة المالكة من جهة، وفي أسعار النفط من جهة أخرى.
4- ماحدث يعني رفع رسوم التأمين على ناقلات النفط السعودية، وربما الإمارتية وغيرها، وهذا يؤثر في التكاليف وأسعار النفط أيضا.
5- إذا تم تحويل الناقلات لتدور حول رأس الرجاء الصالح فإن هذا سيؤثر سلباً في قناة السويس، وفي أنبوب سوميد، وبالتالي في إيرادات كل منهما. بعبارة أخرى، مصر، رغم أنها غير مطلة على مضيق باب المندب، تدفع ثمنا مباسرا لهجمات الحوثيين على ناقلات النفط.
6- ماحدث يضع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مأزق: المشكلة ليست تحكم أوبك او السعودية في أسواق النفط، فقد قامت هذه الدول بزيادة الإنتاج. المشكلة في الحوثيين ومن يدعمهم. بعبارة أخرى، إذا تذمر ترامب من ارتفاع أسعار البنزين في الايام القادمة فإن السبب هو الحوثيين ومن وراءهم!
المشكلة أن زيادة التواجد الأمريكي والأوروبي في مضيق باب المندب قد يؤدي إلى تأزم من نوع أخر بسبب وجود قواعد صينية وتركية في المنطقة. كل هذا سيرفع رسوم التأمين على جميع السفن العابرة للمضيق، مهما كانت حمولتها. ارتفاع رسوم التأمين بشكل كبير، أو زيادة المخاطر بسكل عام، قد يجبر شركات الشحن على تحويل مسار سفنها والدوران حول افريقيا، الأمر الذي سيزيد التكاليف على الجميع.
7- بقي أن نذكر أن أحداث باب المندب صرفت الأنظار عن تهديدات إيران لمضيق هرمز الواقع بين عمان وإيران، وهذا يصب في صالح إيران!
الخلاصة
ماقام به الحوثيون قد يؤثر في العالم أجمع عن طريق ارتفاع أسعار النفط في كافة الأسواق العالمية، وفي حالة زيادة تأزم الأمور فإن أسعار الكثير من السلع سترتفع على مستهلكين لم يسمعوا لا بالحوثي ولا باليمن. وفي الوقت الذي قد ينظر فيه البعض إلى قرار السعودية تعليق الشحنات النفطية على أنه طريقة ذكية للضغط على ترامب كما ذكر البعض، إلا أنه يمكن النظر لقرار السعودية على أنه محاولة للتخفيف من تأزم الوضع في المضيق، وتفادي صراع عالمي فيه بسبب تعدد القواعد العسكرية في المنطقة.
ومن الواضح أن ماحدث سيرفع أسعار النفط، وكلما طالت فترة تعليق الشحنات، كلما ارتفعت الأسعار أكثر.
والسؤال الذي يحتاج إلى اجابة: هل سيوحد الهجوم على ناقلتي النفط السعوديتين العالم ضد الحوثيين وإيران؟ وإن غدا لناظره قريب!
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال