الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
شهدت الساحة النفطية جدلًا واسعًا حول العُمر الافتراضي للنفط كمصدر للطاقة كما أشرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة، لكن فَهم هذا النوع من الاشكالات يفرض أساسًا معرفة أصل الشيء، أي أصل النفط وطبيعته كمورد، هل هو ناضب (كالمعادن) أم متجدد (كالمنتجات الزراعية)؟
يرجع تاريخ نشأة النفط إلى ما قبل أكثر من 290 مليون سنة كأقل تقدير. كانت الجزيرة العربية آنذاك تقبع تحت بحار وبحيرات و مع مرور الزمن تراكمت بقايا الحيوانات البحرية والنباتية أو “العَوالق” واختلطت بالطين ثم تراكمت فوقها طبقات صخرية رسوبية. نتيجة للضغط المتزايد والحرارة المرتفعة التي تزيد عن درجة غليان الماء، تحولت هذه العوالق إلى مادة تحوي النفط الخام. تسللت هذه المادة خلال طبقات الصخور المسامية حتى تم احتجازها في طبقات صخرية محاطة بمادة عازلة (والتي تعرف باسم المكمن) تمنعها من الانتقال، وتحولت تدريجيًا إلى النفط الذي نعرفه الآن. من هذه المواد ما استطاع تفادي الطبقات العازلة والنفاذ إلى سطح الأرض كما هو الحال في أذربيجان وبعض الأجزاء في العراق وإيران.
يتواجد معظم نفط المملكة شرقي الجزيرة العربية بسبب انحباس النفط في طبقات صخرية عازلة منعتها من النفاذ خارجها وتوجد بعض الحقول البترولية شمال غربي المملكة إلا أن معظمها غازي.
ما سبق ذكره يعرف بالنظرية العضوية، وهي النظرية الأكثر شيوعًا وقبولًا لدى الجيولوجيين والعاملين في الصناعة النفطية. توجد نظرية أخرى وتسمى بالنظرية الغير عضوية وقد ازدهرت في عهد الاتحاد السوفييتي ولها أنصارها في السويد وأمريكا. من اسمها، نشأ النفط من أصول غير عضوية نسبة إلى تفاعلات كيميائية حرارية في أعماق سحيقة في الأرض ونزح بعدها النفط إلى المكامن النفطية الحالية.
بالنسبة إلينا في المملكة، فإن النظرية العضوية هي التي تتبناها شركة أرامكو السعودية وشركة شيفرون وذلك بسبب الكم الهائل من الأحافير البحرية في هضبة نجد عدا عن الدراسات الجيولوجية التفصيلية التي تشير إلى أن الطبقات الصخرية التي نراها في الرياض والمنطقة الوسطى هي امتداد للطبقات الصخرية ذاتها تحت الأرض التي تحوي “المكامن” الصخرية الحاضنة لنفط الغوار وغيره من الحقول. الأهم من هذا أن المكامن عازلة ومحاطة بالمياه الشديدة الملوحة من أسفلها مما يعني تسرب النفط والكثير من الآبار الاستكشافية أثبتت هذه الحقيقة.
استنادًا إلى النظرية العضوية، فإن النفط الذي ننعم بخيراته هو مورد غير متجدد وعرضة للنفاذ لأن عملية نشأته و”طبخه” تستغرق ملايين السنين كما أن أماكن تواجده محدودة حول العالم (لكن هذا لا يعني أن جميعها قد اكتُشف وإن خفت وتيرة الاستكشافات النفطية الضخمة من النفط التقليدي منذ الثمانينات).
أيعني هذا أن النفط قد قارب على النفاذ؟
في كتابه: “النفط بين إرث التاريخ وتحديات القرن الحادي والعشرين”، أشار الخبير الاقتصادي الدكتور ماجد المنيف إلى أن الاحتياطي العالمي من النفط الخام قد ازداد بمقدار 6 أضعاف مما كان عليه سنة 1960 والذي كان في نطاق الـ 350 مليار برميل إلى ما يزيد عن 1700 مليار برميل في وقتنا الحاضر، وهو في ازدياد وإن خف نَسَقُه عن السابق.
يقابل هذه الوتيرة زيادة مضطردة في الاستهلاك العالمي، حيث تشير التقديرات إلى أن معدل انتاج النفط في 1960 كان في نطاق الـ 20 مليون برميل يوميًا وهي الآن تقارب الـ 90 مليون برميل يوميًا بزيادة تقدر بـ 5 أضعاف تقريبًا، أي أن معدل الزيادة في الاستهلاك العالمي يقابلها زيادة في الاحتياطي النفطي.
هذا لا يعني أن الاحتياطي النفطي والإنتاج العالمي سيستمر بالازدياد إلى ما لا نهاية، حيث أن النفط مورد ناضب غير متجدد، وهنالك تباين في الآراء عن توقيت بدء العد التنازلي وهو ما سأتطرق إليه في هذه السلسلة.
ماذا عن تقرير شركة البترول البريطانية الإحصائي الأخير والذي أشار إلى أن “عُمر النفط” السعودي هو 62 سنة؟
في حقيقة الأمر، لم يشر تقرير الشركة عن عُمر النفط لا من قريبٍ أو من بعيد. يتطرق التقرير إلى مؤشر يسمى بـ R/P Ratio وهو اختصار لـ Reserves-to-Production Ratio، وهو مؤشر يعتمد على قسمة الاحتياطي النفطي على كمية الإنتاج في 2017 لتحديد معدل استنزاف الاحتياطي النفطي. بالنسبة لنا في المملكة، فإنه بقسمة احتياطي المملكة النفطي على معدل الإنتاج السنوي فإنه سيتم استنزاف الاحتياطي في 62 سنة.
للأسف، يروّج البعض لهذا المؤشر بغير مسماه، حيث يتم تسميته تارة بالعُمر الافتراضي للنفط وتارة بُعمر النفط، وهي ترجمة غير دقيقة كما أن التقرير لا يصفه بالـ Remaining Life Time of Oil أو ما شابه. الوصف الدقيق لهذا المؤشر باللغة العربية هو “سنوات استنفاذ الاحتياطي” وهو مؤشر غير صحيح لتحديد لذروة انتاج النفط مستقبلًا أو تحديد ما تبقى منها لأسباب سأتطرق إليها في الجزء التالي من هذه السلسة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال