الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أشرت في الجزء السابق إلى مصداقية ما لدينا من احتياطيات نفطية وقابليتها للزيادة. يقابل هذه الزيادة السنوية زيادة عالمية في استهلاك النفط على الصعيدين المحلي والعالمي وأيضًا دخول لاعبين رئيسين في مجال إمدادات الطاقة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح والتي تصنف تحت مسمى: “الطاقة البديلة”.
يحتار القارئ بين الكم الهائل من التقارير التي تصدرها الشركات والمنظمات ومراكز الأبحاث المتخصصة وبين التباين الكبير في السيناريوهات إلا أنالأغلبية تتفق على أن معدلات الإنتاج ستزداد مع الوقت لتصل إلى الذروة في وقت ما وذلك إما بفعل الطلب Peak Oil Demand أو الانتاج Peak Oil Supply .
تعتمد نظرية ذروة انتاج النفط على فرضية مفادها أن كل النفط في العالم قد تم حصره، وأن ما سيتم اكتشافه من نفط لاحقًا لن يؤثر على مجمل الاحتياطي النفطي المتبقي، أي أن القاعدة ثابتة فيما يخص الاحتياطي النفطي. تعود أصول هذه الفرضية إلى دراسة أجراها ماريون هابرت على عدد من الحقول النفطية الأمريكية والتي كان انتاجها يزداد مع مرور الوقت وبعدها يبدأ بالنضوب إلى أن تتوقف الحقول تمامًا عن الإنتاج.
تنبأ هابرت بأن ذروة انتاج النفط من الحقول الأمريكية ستتحقق في 1971 وهو ما حصل ثم قام بعدها بتعميم النظرية على الإنتاج العالمي وتنبأ بأن الذروة ستحدث بين عامي 1995 و2000 وهو ما لم يحدث.
للأسف الشديد، جرى استخدام هذه النظرية من قبل العديد من الإعلاميين والسياسيين لتمرير سياسات وتشريعات بعضها إيجابي كتلك التي تهدف إلى تنويع مصادر الطاقة وعدم الاعتماد الكلي على النفط، وأخرى كارثية كتلك التي تطرقت إليها في مستهل هذه السلسلة كما جرى مع ماثيو سيمنز الذي حاول إسقاطها على انتاج المملكة والتشكيك في مصداقية أرقام الاحتياطي وفشل في تحقيق مآربه.
يفترض ماريون هابرت، مؤسس نظرية ذروة انتاج النفط، وتلاميذه كالجيولوجي الشهير كينيث ديفيس أن قاعدة أرقام الاحتياطي النفطي ثابتة، وهي في الحقيقة ليست كذلك بل إن أرقام الاحتياطي النفطي في ازدياد مستمر بفضل الاستكشافات النفطية (وإن كانت ضئيلة بالمقارنة مع تلك في حقبة الثمانينات) بالإضافة إلى أن العديد من التقنيات ساهمت في زيادة مقدار ما يمكن استخراجه كتقنية التكسير الهيدروليكي الذي أحدث ثورة نفطية صخرية في وقت لم يكن النفط الصخري مصنفًا ضمن قائمة الاحتياطات النفطية المؤكدة للشركات الأمريكية.
هل يعني هذا أن انتاج النفط سيبقى مستمرًا دون أن يصل إلى ذروة في الانتاج؟
الجواب في نظرية أخرى تلقى رواجًا كبيرًا في الآونة الأخيرة وهي نظرية ذروة الطلب على النفط (Peak Oil Demand)، التي ترى أن الذروة ستحصل طوعاً لا كَرهاً بسبب كفاءة استخدام الطاقة التي تعتمد على المصادر الأحفورية، وتزايد الاهتمام بقضايا تغير المناخ والاحتباس الحراري وما صاحبها في تنامي للطلب على مصادر الطاقة الأخرى التي تلقى رواجًا كبيرًا لدى الأوروبيين على وجه الخصوص، وبسببها سيستغني العالم في مرحلة ما عن استخدام النفط، وسينخفض انتاج البترول ليس بسبب نقص الامدادات وإنما لإحجام المستهلكين عنه.
سأتناول هذه النظرية من جانبين: الدولي والمحلي.
على الصعيد الدولي، أشار تقرير وكالة الطاقة الدولية إلى أن استهلاك العالم من النفط سيرتفع بمقدار 1.4 مليون برميل يوميًا في 2018 وسيزيد بمقدار 1.5 مليون برميل يوميًا في 2019. على الرغم من تنامي دور الطاقة المتجددة وترشيد استهلاك الطاقة عالميًا، إلا أن الطلب على النفط ما زال ينمو عالميًا لعدة أسباب أهمها كفاءة توليد الطاقة من النفط واستدامتها وسهولة نقل وتخزينه على عكس موارد الطاقة الأخرى التي تعاني من قصور في عدد من هذه الجوانب.
التحول بعيدًا عن النفط والترويج لتسارع فترة اقتراب هذه الذروة كما يروج له الاعلام الغربي وللأسف إعلامنا المحلي ليس بالواقعي لكن ملامح هذا التحول ستحدث على فترات زمنية طويلة وهي رهينة كفاءة مصادر الطاقة الأخرى وملاءمة أسعارها وتخفيف الدعم الحكومي على الوقود الأحفوري وتشجيع الاستثمار في مجالات الطاقة البديلة.
متى ستحدث الذروة؟
لا أحد يعلم بالضبط وهنالك الكثير من التوقعات. في مايو 2017، نشرت وول ستريت جورنال تقريرًا مثيرًا عن هذه النظرية بعنوان: “Great Ready for Oil Demand” تضمن تنبؤات عدد من الشركات النفطية والوكالات العالمية فيما يتعلق بتوقيت وصول الذروة. على سبيل المثال، ترى وكالة الطاقة الدولية ومعظم الشركات الأوروبية كالبترول البريطانية وتوتال الفرنسية بأن ذروة الطلب على النفط ستحدث أوائل 2040. على النقيض، لا ترى الشركات النفطية الأمريكية كشركة شيفرون أن الذروة ستحدث بل إن إكسون موبيل ترى أن النفط سيكون المصدر الرئيسي كوقود للسيارات أو المنتجات البتروكيماوية في 2040 خصوصًا مع تنامي الطلب عليهما في آسيا.
على الصعيد المحلي، تناول التقرير الذي أصدره مركز أبحاث تشاتام هاوس (Chatham House) الإنجليزي بعنوان: “حرق النفط لتبريد الأجواء” الصادر في ديسمبر 2011 بعض الحقائق المزعجة عن تنامي الاستهلاك المحلي من النفط بمعدلاته الحالية وتأثيره على صادرات المملكة من النفط. يشير التقرير إلى أن المملكة تستهلك ربع انتاجها وأن الزيادة السنوية في الاستهلاك ستصل إلى 5 – 6% سنويًا وأنه بحلول عام 2038 فإن المملكة ستستورد النفط لسد احتياجاتها!
بغض النظر عن دقة التقرير وما تضمنه من افتراضات ومبالغات، إلا أن التقرير قدم واقعًا مخيفًا عن مستقبل المملكة في حال استمرت معدلات الاستهلاك المحلي دون ترشيد أو تغيير في أنماط الاستهلاك أو تفعيل البدائل.
في أبريل 2016، أعلن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله عن رؤية المملكة 2030 والتي تضمنت خططًا جريئة في مجالات تنويع مصادر الدخل من ضمنها تخفيف الدعم الحكومي على الطاقة والوقود وتوليد الطاقة باستخدام الطاقة المتجددة بمعدل 9.6 جيجا وات عدا عن جهود شركة أرامكو السعودية في تطوير الكثير من الحقول الغازية بشقيها التقليدي والغير تقليدي لاستخدامها في توليد الكهرباء والصناعات البتروكيماوية آخرها مشروع مدينة جازان الاقتصادية.
كان لضعف النمو الإجمالي في الاقتصاد المحلي بعد انهيار أسعار النفط في 2014 والكثير من القرارات التي تم اتخاذها في العديد من المجالات بما فيها الطاقة أثرًا إيجابيًا حيث أشار تقرير شركة النفط البريطانية الاحصائي إلى ثبات معدل استهلاك النفط في نطاق الـ 3.9 مليون برميل يوميًا في الفترة ما بين 2016 أو 2017 بانخفاض يقدر بـ 0.5%.
إذا السؤال، متى ينفد البترول من السعودية؟
توقيت نضوب النفط أو وصوله إلى مرحلة الذروة مرهون بالكثير من المتغيرات كما أسلفنا. كلا النظريتان لذروة النفط تقرّان بأن عصر النفط سيحدث ذات يوم سواء بسبب نضوب النفط كونه موردًا ناضبًا كما أشرنا سابقًا أو بسبب قضايا التحول المناخي وتوجه الكثير من الدول إلى الاستثمار في الطاقة المتجددة وتحول العديد من الشركات النفطية إلى الاستثمار في قطاع الغاز وغيرها من العوامل.
بالنسبة إلينا في المملكة فالتنبؤ بانتهاء عصر النفط أو وصول انتاجه إلى الذروة ليس بالأمر الهين.
لدينا من الموارد النفطية ما يكفينا لعقود قادمة، بشقيها التقليدي والغير تقليدي والتي لم يتم تطوريها، لكن وفي ظل المتغيرات المتسارعة، فإن المستقبل ما زال ضبابيًا، يحمل في طياته الكثير من المستجدات التي لم يسبق لنا التعامل معها، كالاستكشافات التكنولوجية الحديثة، وقضايا الاقتصاد والبيئة التي سنضطر للتأقلم معها مواكبتها أو ترشيد الاستهلاك، أو الأسوأ أن نختار العزلة، وكل خيار يتطلب تضحيات كثيرة، هذا والله أعلم.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال