الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
“الحوكمة” بدأت تاريخيا في القرن الـ 19 في الشركات الغربية، وأخذت في النمو إلى أن تكون مصطلح “الحوكمة”، وهو يعني باختصار جعل كل شيء من خلال نظام يضمن حكم القانون وعدالة تطبيقه، وهي تركز في الأساس على تعزيز ضمان الشفافية والعدالة والحقوق والرقابة والاستقلال بين السلطات داخل الجهاز نفسه وعدم تعارضها مع أهدافه أو مصالحه ومحاربة الفساد، وتشهد المرحلة الحالية تطورات جوهرية غير مسبوقة بالسعودية، من أهمها إعادة النظر في الشكل السابق للإنفاق والأداء الحكومي، أن الأجهزة الحكومية بالمملكة جاهزة لتطبيق الحوكمة ومأسسة العمل ورفع كفاءته وفقا لـ«رؤية السعودية 2030» التي تنص على أهمية تطبيق هذا المعيار، الحوكمة تساعد الأجهزة الحكومية على تحسين العمليات التشغيلية، كما أن للحوكمة أدورا تكسب الأجهزة القيادية في الدولة موثوقية في أداء الأجهزة الحكومية، مما يعزز من عملها واستدامتها.
حقيقة ان مصطلح الحوكمة بين القطاعات الثلاثة حوكمة الشركات في القطاع الخاص، وحوكمة القطاع العام، وحوكمة القطاع الثالث “غير الهادف للربح” لا يختلف كثيرا من حيث المبادئ والأسس؛ فجميعها تؤدي إلى تحسين العلاقات الداخلية والخارجية بين الجهة والمستفيدين، ورفع مستوى الشفافية، وإيجاد وتطبيق الأنظمة التي تؤدي إلى العدالة ومحاربة فرص الفساد. قد تختلف نسبيا في بعض التفصيلات وفي آليات التنفيذ حسب البيئة العامة التي تطبق فيها. ونظرا لتطوير مفهوم الحوكمة في القطاع العام، وهذا يتطلب توضيح دقيق واضح لكل الأنظمة والتشريعات واللوائح التي تفسر الخدمات وطرق تنفيذها، وتحقيق الدخل وإعادة توزيعها، فالحوكمة في أساسها تهدف إلى تشجيع القطاعات على اتخاذ قرارات فعاله لتعزيز استخدام الموارد بفاعلية، وتعزيز المساءلة عن ادارتها، وتأتي آليات الحوكمة لتعمل كأدوات مهمة لتحسين الإدارة، والأداء والتصدي للفساد، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق النتائج المقررة ويساهم في تعزيز جودة الحياة.
وقبل الحديث عن الحوكمة في القطاع الحكومي، يجب أن نفهم مشكلة الحوكمة في القطاع الحكومي السعودي، ذلك أن فهم هذه المسألة شرط لازم لاختيارات المبادئ التي سنعمل على تطويرها، فمسألة الحوكمة بدأت مع الشركات المساهمة عندما انفصلت الملكية عن الإدارة وظهر المدير التنفيذي المحترف للوجود، لقد كان المدير التنفيذي يمثل الوكيل عن المساهمين أو الملاك في إدارة الأموال، وبالطبع كان المدير يتولى شؤون العمل اليومية من مدفوعات أو نفقات وإيرادات ومبيعات والخدمات، ومع العمل اليومي يصبح المدير والعاملون معه الوحيدون القادرون على تحديد قيمة الإيرادات والمصروفات وقيم الأصول والالتزامات، بينما يبقي الملاك بعيدين عن تلك المعلومات، وبالتالي نقع في مشكلة “عدم التوافق المعلوماتي” وهي من المشاكل الرئيسيّة في العمل الإداري Information Asymmetry ، وفي نهاية العام المالي يأتي المدير التنفيذي بالتقرير المالي يتضمن قوائم مالية أعدها فريق عمله تحت إشرافه، يحدد فيها حجم التدفقات النقدية والأرباح التي يحق للملاك تسلمها، ويحدد أيضا مكافأته وفريق عمله، وبسبب مشكلة عدم التوافق المعلوماتي تظهر مشكلة الوكالة وتكاليفها التي تنامت مع الوقت، ومشكلة الوكالة ببساطة هي عدم ثقة الملاك بالأرقام التي أعدها المدير ولم يشرفوا على إعدادها بإفتراض أنه قد يضخم الأرباح والنتائج لتعظيم مكافأته أو يخفض قيم الأصول لأجل أن يختلسها، والمدير التنفيذي وفريقه من جانبهم لا يثقون في نيات الملاك، لأنهم يعتقدون أنهم إنما يشككون في النتائج لمنع المدير وفريقه من الحصول على حقهم في المكافآت والأرباح، وطلب زيادة الرواتب تباعاً للنتائج الجيدة المحققة.
ولحل هذه المعضلة فإن كلا الطرفين يرغب في وسيط مستقل متفق عليه ليراجع ويدقق القوائم المالية وليمنح الطرفين ثقة هم في حاجة إليها لبقاء العمل، وهنا ظهرت الحاجة الاختيارية لمراجع حسابات مستقل، فنشأت مهنة المراجع القانوني، ثم تحول الطلب على تقرير المراجع إلى إلزامي، ومع تنامي هذا الاتجاه من الإلزام أصبح لدى المراجع القانوني أداة ضغط كبيرة على الشركات لتطوير نظام الرقابة الداخلية وتعيين مراجع داخلي وأيضا إنشاء لجان مستقلة للمراجعة ولجان للترشيح والمكافآت، ولربط هذه الموضوعات معا تم تطوير مبادئ الحوكمة، إن الطلب على مبادئ الحوكمة يأتي أساسا من القبول الطوعي للطرفين الملاك والمستفيدين من جهة والمديرين التنفيذيين من جهة أخرى لهذه المبادئ ويأتي حرصهم على تطبيقها، لأنها تبين مدى نزاهة الطرفين وبالتالي استحقاقهم للأرباح والتدفقات النقدية وتبرر حاجتهم إلى التمويل، ولهذا لا يمكن ضمان نجاح تطبيق الحوكمة في أي قطاع ما لم يكن هناك مشكلة وكالة لدى الطرفين مستفيدين ومديرين والرغبة الحقيقية في إقناع الآخرين بالنزاهة.
في القطاع الحكومي وعلى مستوى الدول، يجب على الوزير والوزارة كـ “تنفيذي” الفوز بثقة المواطنين كـ “ملاك” ودافعي ضرائب للبقاء أو الفوز بمنصب الوزارة وتنفيذ خططه الوزارية، وبينما يريد العملاء التحقق من قدرة الوزير وإدارته على تحقيق استدامة الخدمات وحسن استخدام الموارد ومكافحة الفساد، ولذلك تظهر مشكلة الوكالة بكل تفاصيلها بين الطرفين ويحتاج كلا الطرفين إلى مبادئ الحوكمة، الوزير كمدير يحتاج إليها ليثبت للمواطنين والمتعاملين عند تطبيقها مدى نزاهته وصدق معلوماته وتقارير أدائه وفريق عمله وبالتالي استحقاقه للمنصب والميزانيات المرصودة، والعملاء فهي تعطيهم ثقة في المعلومات وبالتالي اتخاذ قرارات أفضل تعزز المساءلة وتوفر ادوات مهمة لتحسين الإدارة والأداء والتصدي للفساد، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق أفضل النتائج وبالتالي تنعكس على رضا المتعاملين، اليوم ومع التطورات المهمة في قياس اداء الجهات الحكومية من خلال “آداء” وحوكمة الرؤية ، فإن تقييم ثقة العملاء بالمسؤول امر طبيعي، حيث أن المسؤول أياً كان سوآء وزير أو مدير مؤسسة حكومية يخضع لقياس الثقة فهو امر مهم جداً في تبرير المخصصات التي تحصل عليها الوزارة، والتمويل الجديد للمشاريع، كل ذلك سيعمل كأداة ضغط أساسية لتحسن الأداء، خصوصاً في ظل ما تقوم به الدولة اليوم من مكافحة للفساد على كل المستويات بصرامه، لذلك فإن اعلان ميزانيات الوزارات وتقاريرها السنوية امر في غاية الأهمية ولابد ان يتواكب مع اعلان الميزانية السنوية.
لذا من خلال هذا المقال أتمنى من وزارة المالية وصندوق الإستثمارات العامة العمل على إصدار “ميثاق لحوكمة الشركات الحكومية” فهذه الشركات تمثل ثقل اقتصادي كبير وتقدم مساهمة ملموسة في الناتج المحلي، كما أنها تضطلع بدور كبير في مجال في المسؤولية الاجتماعية لذا لا بد من إدخال مبادئ الحكومة فيها سعياً الى تحسين بيئة عملها، أيضاً لإيجاد ضوابط ومعايير تستهدف تعزيز مبادئ الإدارة الرشيدة لدى الشركات الحكومية وبالتالي رفع كفاءة الأداء وتحقيق مزيد من النمو والتوسع في أنشطة واستثمارات الشركات الحكومية، كما أن الميثاق يساهم في تعزيز التنويع الاقتصادي، كما يساعد في تحسين دور مجالس الإدارات إيجاد ضوابط ومعايير تستهدف تعزيز مبادئ الإدارة الرشيدة لدى الشركات الحكومية وبالتالي رفع كفاءة الأداء وتحقيق مزيد من النمو والتوسع في أنشطة واستثمارات الشركات الحكومية، ولابد من اصدار ميثاق او دليل لسياسات وطنية موحدة في الاستدامة ويقصد بها المفهوم الأوسع للمسؤولية الاجتماعية، خصوصاً مع توجهات الدولة اليوم نحو تحقيق الإستدامة في القطاعات المختلفة.
اما ان تحدثنا عن القطاع الخاص فاليوم ان هذا القذاع القطاع يمر في مرحلة تحول وهيكلة كبيرة ليكون شريك في التنمية، ولكن مع الأسف سلبية بعض الغرف التجارية وعدم وجود أنظمة حوكمة اليوم جعلت منها ايضاً عائق امام القطاع الخاص، حقيقة الغرف تحتاج لإعادة النظر في حوكمتها فبعضها تحولت إلى “شركات عائلية” تعمل بمبدأ “تلقي الركبان” وتحت شعار “الأقربون أولى بالمعروف” دون حسيب ولا رقيب! بل وأصبحت منافس للقطاع الخاص وتستولي على الفرص المهمة! بالإضافة لتدوير الوظائف فيما بينهم والتوريث الوظيفي، لذا حان الوقت لفرض حوكمة الغرف التجارية، فلابد ان تعلن الغرف عن ميزانياتها وايراداتها ومصروفاتها، والإعلان عن ميزانياتها السنوية من باب الشفافية، وحقيقة لا اعلم لماذا لا يتم إلغاء هذه الغرف التي تغرد كلاً منها بشكل منفصل مع غياب للشفافية والرقابة ونكتفي بمجلس الغرف السعودي لتوحيد الجهود وتحقيق التنمية الحقيقية للقطاع الخاص؟!
ونظراً لأهمية العوائل التجارية في الاقتصاد الوطني يجب العمل على المحافظة عليها وتطويرها وإتباع كل السبل الكفيلة في استمرارها ونجاحها من قبل الجهات الحكومية ذات العلاقة والعمل على تحويلها من العمل الفردي إلى حوكمة الشركات. هناك عوائل تجارية عريقة بنت أسماء تجارية مرموقة على مر سنين طويلة ولكن بعد وفاة المؤسس أو مرضه دب فيها الخلاف بين الشركاء فهوت وانهارت في زمن قصير لأنها لم تنتقل من العمل الفردي إلى العمل المؤسسي وحوكمة الشركات وأصبحت قصص خلافاتها تتداول في الصحف وتنتقل بين المحاكم. وعلى الجانب الآخر هناك أمثلة مشرفة لعوائل تجارية سعودية أدركت أن السبيل لبقاء ونجاح كياناتها التجارية وترابط أبنائها والحد من الخلافات بينهم هو التحول إلى العمل المؤسسي وإعادة هيكلة أعمالها بالتحول إلى شركات مساهمة مغلقة أو عامة.
أيضاً “حوكمة” القضاء أمر مهم بل وأهم بكثير من أي قطاع آخر. وبالتأمل في أنظمة القضاء لدينا، نجد أن الحوكمة موجودة في كثير من التشريعات القضائية، إلا أنها متناثرة وتحتاج إلى ترتيب ومزيد من التعزيز. من خلال الحوكمة، يتم التركيز مثلا على التداخل بين الصلاحيات والاختصاصات، أو حتى مجرد إمكانية التداخل، أو إمكانية سوء استغلال هذا التعارض، ثم تتم معالجتها وإغلاق هذه الفجوات بالحوكمة، أيضاً حوكمة القطاعات المختلفة الصحة والتعليم والرياضة والأوقاف وغيرها ،،،
من وجهة نظري إن هناك ضرورة لإعداد قاعدة بيانات شاملة تضم أفرادا مؤهلين وذوي معرفة عالية في مجال حوكمة الشركات حتى نرفد بهم مجالس الإدارات وخاصة الاعضاء المستقلين منهم، كما ولابد من العمل على تعزيز مفهوم “الإبتكار في حوكمة سوق العمل” مما يعني أهمية التعاون بين منظمة العمل الدولية والسعودية كدولة محفزة للإبتكار في سوق العمل، ان تطوير أنظمة معلومات واحصائيات سوق العمل والذي يعد أحد مسارات البرنامج سيتم من خلال ربط البيانات الحالية للسوق وتحديث بشكل دوري وتطوير مؤشرات شاملة طنية ومحلية لسوق العمل بما يسهم في تعزيز قدرات استخدام المعلومات والبيانات في رسم وتقييم السياسات والبرامج ذات الصلة بسوق العمل.
ختاماً: تلعب الحوكمة اليوم دورا أساسيا في تقييم أداء المؤسسات والدول وتصنيفها من الجانب الاستثماري، وأصبحت الحاجة ملحة أيضاً لها لتعزيز التطور وسعيا لتقليل المخاطر عندما تمر الدول والمؤسسات العامة والخاصة بأوضاع مالية صعبة ومراحل تحول وهيكله، كما أن توفير البيانات للمؤشرات والمقاييس الدولية الرسمية والخاصة ضعيف وغير دقيق، لذا لابد من المراكز المتخصصة في الدراسات لتوفير بيانات المؤشرات الدولية في مجال الحوكمة وغيرها، وإيضاح أسباب عدم تطابق بعض المعايير على ثقافة وطبيعة الحياة في المملكة والدول المماثلة لنا، هذه المشاركات ستؤدي بالتأكيد إلى المساعدة في تطبيق وتحسين “رؤية المملكة” وفعاليتها ومن المهم أن نأخذ موضوع الحوكمة بأهمية قصوى في تحقيق الاستراتيجيات التي تهدف إليها المملكة، كونها أداة تساعد على تحقيق جميع أهداف التنمية المستدامة الدولية والمحلية وبالتالي حوكمة المستقبل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال