الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بيَّنت الخطوط العريضة لما أظهره الأمير محمد بن سلمان ولي العهد في مقابلته مع بلومبيرغ توجهًا واضحًا وقويًّا لدى الدولة في دعم النمو الاقتصادي، وتحديد ممكنات النموّ الاقتصادي والتي من أهمها: الثبات وعدم الاستعجال في التغيير في أيّ هيكلة اقتصادية، والتأكيد على عدم وجود أية ضرائب جديدة، أو أيّ تغيير مفاجئ يُقلق المستثمرين، ورغبة أكيدة على تشجيع زيادة رأس المال الأجنبي والتوجُّه الاستثماري القويّ في قطاع البتروكيماويات ومشاريع المصب (downstream)، وخصخصة القطاعات الحكومية.
ولكنْ بالإضافة إلى كلِّ ما سبق هناك نقاط تكاد تكون أكثر عمقًا في القراءة أهمها: وضوح الخطوط العريضة للسياسة الخارجية والداخلية في المملكة التي ترفض العودة للماضي والأسلوب القديم بتقديم التنازلات داخليًّا وخارجيًّا؛ والذي كان يسبِّب الكثير من التقهقهر الاقتصادي والجمود، وأكبر مثال على ذلك: موضوع التخصيص الذي تمَّ الحديث عنه قبل عدة سنوات، وأُعِدَّت له عِدَّة برامج تنفيذية كان سيبدأ العمل عليها وتنفيذها عندما كان سعر البترول 30 دولارًا أو أقل، وعندما ارتفع سعر البترول تمَّ إيقاف هذه البرامج وأصبحت ليست من الأولويات، بينما الرسائل واضحة في تأكيد التوجُّه إلى تخصيص أكثر من 20 قطاعًا في عام 2019 وما بعده. هذا بالإضافة إلى عملية الهيكلة المالية لميزانية الدولة التي يجري العمل عليها بشكل جدّي وواضح، ولا يوجد تراجع عنها؛ مما سيساهم في تحقيق المملكة بشكل كبير للتوازن المالي في 2023 كما هو مخطَّط له.
كما ظهر بشكل واضح وجلِيّ المرونة وعدم التعنُّت في القرارات في حال وجود أيّ خطأ أو قصور في أيّ موضوع يتمُّ مراجعته وإعادة النظر فيه وتعديله؛ كما حصل مع موضوع أرامكو، ومشروع الطرح؛ عندما اتضح أنَّ أرامكو ينبغي أن تركِّز على مشاريع المصبّ، وأنَّ استثماراتها الكبيرة سوف تتعارض مع سابك، وسوف تضُرّ بمصالح الدولة التي تملك 70% من أسهم سابك، حتى أصبح من المنطقي أن تستحوذ أرامكو على حصة رئيسة من سابك؛ لتكون ذراعًا من أذرعة أرامكو، وحتى يتم توحيد الأهداف والاستراتيجيات من خلال جسم واحد وشركة عملاقة في قطاع البيتروكيماويات والمصب على مستوى العالم؛ وهو ما استدعى تأجيل طرح أرامكو سنة أو سنتين وهو ما يُعَدُّ شجاعةً؛ لأنَّ مُتَّخِذ القرار بَنَى قرار التأجيل أو التعديل بناء على المصلحة العامة للدولة، ولم يُرَكِّز على الصراعات الإقليمية والتحفيز الإعلامي الخارجي الذي كان ينتقد تأخير الطرح، ويحاول دفع المملكة إلى الطرح والاستعجال في هذه الخطوة بشكل غير مدروس، لكن ما حصل خلاف ذلك.
وأستطيع أن أؤكد أنه خلال الـ40 عامًا الماضية لم أشاهد حراكًا سياسيًّا واقتصاديًّا وتنميةً وتطويرًا وتعديلاً وثباتًا على تعديل القرارات بما يتناسب مع المصلحة؛ كما هو موجود اليوم، وحتى مع ارتفاع أسعار البترول اتَّضح عدم وجود تغيير في سياسات الإنفاق، بل كان التوجُّه واضحًا أنَّ ذلك سيساعدنا في زيادة احتياطاتنا المالية، ولم يتم صرف الفائض الذي تحصل عليه الدولة نتيجة أسعار البترول على عكس ما كان في الماضي، وهو إنفاق ذكيّ بالتأكيد.
وبمجرد أن تكون الموازنة المتوقَّعة الأعلى في تاريخ المملكة 1.1 تريليون ريال سعودي في 2019 يُعَدُّ ذلك دليلاً قاطعًا يدْحَض الشائعات التي تُرَوِّج لحالة الكساد والجمود الاقتصاديّ في المملكة؛ وهو ما يساعد في تحقيق النموّ المتوقّع لاقتصاد المملكة في 2019؛ حيث سيصل النموّ في إجمالي الدخل القومي حسب توقعات صندوق النقد الدولي إلى 2.4% .
هذه الخطوات بلا شك ستعطي زخمًا كبيرًا للقطاع الخاص؛ إذ هناك شبه إجماع على ضرورة دعم وتهيئة القطاع الخاص، ووضعه في مقدمة الأولويات؛ لأنَّه هو المحرِّك الرئيس للاقتصاد، وستحاول الحكومة تخفيف إنفاقها على الخدمات التشغيلية والرواتب والصيانة إلى أقل من 40% من ميزانية الدولة في الأعوام القادمة، وهذا لن يحصل إلا إذا تَسلَّم القطاع الخاص زمام الأمور في التوظيف وفي خفض البطالة.
أما فيما يتعلق بمحور الاستثمارات التي تقوم بها المملكة خارجيًّا وداخليًّا؛ فمن الملاحظ فيما مضى أنه كان هناك عدم إيمان بوجود خطط لتنويع مصادر الدخل، ودخول المملكة في استثمارات استراتيجية وتكنولوجية، حيث كان هناك إحجام كامل عن الاستثمارات المتنوعة خارج المملكة ما عدا الاستثمارات في سندات الخزينة الأمريكية مع القليل الذي لا يُذْكَر في قطاعات أخرى. أما اليوم فهناك هدف واضح يتمثل في أن يكون صندوق الاستثمارات العامة أكبر صندوق سياديّ في العالم في إجمالي أصول تتعدى 2 ترليون دولار، واستثمارات ذكية في شركاتٍ قد تكون عالية المخاطر ومرتفعة العوائد، واستثمارات داخلية محلية متنوعة.
وينبغي التنويه هنا إلى أنَّه في مثل هذه الخطط الاستراتيجية لا يمكن الحصول على نتائج سريعة وفورية، بل يجب الانتظار سنوات؛ لأنك تضع بذور لاستثمارات طويلة الأمد، وهي مختلفة تمامًا عن الاستثمارات التي تقوم بها بعض الدول في قطاع العقار، والتي ترمي من ورائها إلى تحقيق مكاسب مؤقتة فقط؛ لأنَّ الاستثمارات التي تبحث عنها المملكة هي الاستثمارات التي تصبُّ في المزايا النوعية للمملكة؛ كيف نجلب التكنولوجيا، ونُطَوِّر صناعات معينة في مجال الطاقة والتعدين، وصناعة الأسلحة، وصناعة الخدمات، والسياحة، أو الطاقة البديلة.
وبشكلٍ عامّ فإنَّ جميع التوجهات التي تمَّ التأكيد عليها من عدم وجود مفاجآت، وعدم وجود ضرائب إضافية، والاستمرار في الإصلاحات الهيكلية المالية، وتخصيص 20 قطاعًا؛ كل ذلك سيعطي زخمًا كبيرًا للقطاع الخاص والقطاع المالي، وسيكون هناك تدفق كبير للأموال من مستثمرين محليين وأجانب، وخصوصًا في ظلِّ وجود البيئة المانعة والمحاربة للفساد التي كانت غالبًا ما تؤثر على اتخاذ القرارات المناسبة للبلد. وهنا أؤكد على أنَّ هذه الفرصة خلال السنوات الثلاث القادمة هي الفرصة المناسبة للاستثمار، والاستثمار الجريء، ومن سيستثمر سوف يجني عوائد مستقبلية جيدة.
ومن المسائل المهمة والمؤثرة بشكل عام أيضًا هي مسألة التوطين، وهل توضع في الحسبان عند اتخاذ القرارات المالية والاقتصادية مِن قِبَل الدولة؛ حيث كان من الواضح أنَّ هناك بحثًا دائمًا عن حلول عملية لقضية التوطين والبطالة، وهي ما ستكون عناوين لمقالات قادمة مفصَّلة لهذه القضية المهمة؛ بعون الله.
وختامًا؛ فإن ما ينبغي التأكيد عليه دائمًا أنَّ المملكة بلا شك تمرُّ بمرحلة إصلاح وإعادة هيكلة، وكما نعلم أنَّ الاقتصادات الناشئة إذا قرَّرت إعادة هيكلة اقتصادها؛ ينبغي على الجميع تحمُّل الصعوبات المالية والاقتصادية التي ترافق عملية الهيكلة الجديدة، ويحتاج من الجميع الاستعداد لهذه الصعوبات التي تُعَدُّ –من وجهة نظري- بسيطة في المملكة مقارنةً بغيرها من الدول؛ حيث إنَّ اقتصاد المملكة ينمو بنسبة جيِّدة يُتوقع لها أن تتجاوز 2,2% لهذا العام في ظلِّ العديد من المتغيِّرات في الاقتصاد العالمي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال