الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يُخيل لمن يقرأ تحليلات الإعلام العالمي مؤخرا أن السعودية على وشك أن تدخل في عزلة دولية واقتصادية جراء ما يتم الحديث عنه من عقوبات محتملة من الدول الغربية على خلفية حادثة وفاة المواطن جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في اسطنبول. قد يكون ذلك صحيحا ومؤكدا في حالة دول أخرى يضغط عليها الغرب ويعزلها بقرارات سريعة، لكن الوضع في حالة السعودية بحاجة لتحليل أعمق.
بداية، لا شك أن الضغط الدولي كبير ومنسق وفي تزايد وبحاجة لأن يتم التعامل معه وإدارته بحنكة وتروي، فليس من المنطقي اعتبار أن الأمور قد تصل إلى عداوة ومقاطعة مع الدول الغربية وأن ذلك لا يؤثر في شيء. تقييم أهمية أي حدث يكون من حيث أثره في الوضع الاقتصادي الحالي أو المستقبلي للدولة.
من جهة التأثير الفوري لما يجري على الوضع الاقتصادي فالتأثير حجمه قليل ومحدود. فتصدير النفط استمر بدون أي مشاكل والتعاملات المالية لم تشهد أي تغيرات والأهم أن سعر صرف الريال السعودي لم يتأثر رغم بعض الضغوطات البيعية في البداية وذلك لقدرة مؤسسة النقد على احتواء أي تذبذبات. يكاد يكون الأثر الوحيد هو ما يتعلق بسوق الأسهم وقيام بعض المؤسسات الأجنبية بالبيع وإخراج أموالها تحسبا لهبوط الأسعار ولكن هذا الجزء، على أهميته، ليس معقدا لأن الأموال تعود بسهولة خلال فترة قصيرة عند استقرار الأمور، كما أنه جرى التأكيد على الاستمرار بخطة انضمام مؤشر السوق السعودي الى مؤشرات فوتسي راسيل وMSCI.
وأيضا صرح مدير الصندوق النرويجي وهو الأكبر في العالم بأنهم ينوون مضاعفة استثماراتهم في السوق السعودي خلال الأشهر القادمة وهي تبلغ حاليا حوالي 824 مليون دولار. إذن لا مشكلة في جاذبية سوق الأسهم وسعي المستثمرين الأجانب للدخول إليه.
الأثر المباشر الاخر كان إعلاميا وسببه مصادفة توقيت عقد مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار فاعتذر عن الحضور العديد من شخصيات الصف الأول في عالم المال والأعمال. أقول أنه أثر إعلامي، لأن المؤتمر انعقد وتم تدارك الانسحابات بطريقة جيدة بحضور شخصيات دولية وعربية من الوزن الثقيل ومشاركة عدد من الملوك والرؤساء من أفريقيا واسيا والشرق الأوسط وحضور فاعل لوفد روسي رفيع المستوى.
من جهة أخرى، وهي نقطة في غاية الأهمية، يوجد لدى معظم الشركات التي انسحب رؤساؤها من حضور المؤتمر أعمال قائمة من سنوات طويلة في السعودية، لكنها لم تعلن أي شيء بخصوصها والعمل فيها جميعا مستمر كما هو. بالإضافة إلى ذلك، قام عدد من تلك الشركات بإرسال مدراء من درجات أقل لضمان الحصول على حصة من الصفقات. ولذلك لم يكن هناك تأثير اقتصادي بسبب مقاطعة المؤتمر.
حتى الان لا يوجد تصريحات عن نوعية العقوبات المحتملة سوى الكلام عن إيقاف بيع الأسلحة وهو الأمر الذي عبر ترامب عدة مرات عن قلقه من حصوله بسبب أهميته للاقتصاد الأميركي وخلق الوظائف فيه، بينما أعلنت ألمانيا أنها ستوقف صفقات أسلحة إلى حين انتهاء التحقيقات.
الجدير بالذكر أن الصفقات الألمانية نفسها كانت متوقفة حتى الشهر الماضي عل خلفية الخلاف الدبلوماسي بين السعودية وألمانيا. في كل الأحوال، موضوع بيع الأسلحة هو سوق مشترين. مصنعين كثر في الشرق والغرب ولكن قلة من المشترين الذين لديهم القدرة المالية والموازنات العسكرية الكبيرة تأتي السعودية على رأسهم. هذا لا يعني أن المملكة تريد الاستغناء عن الدول الغربية في مشتريات الأسلحة، لكن وجود الخيارات سيجعل أي بائع غربي يفكر مليا قبل اتخاذ أي قرار، وهو ما عبر عنه ترامب بوضوح.
أي عقوبات أخرى محتملة سواء في المجال النفطي أو المالي ستكون ضربا من الجنون لما للمملكة من تأثير على الاقتصاد العالمي ككل. فالسعودية أكدت عدة مرات أنها لا تفكر أبدا باسخدام النفط كسلاح، ولكنها عدا عن كونها أكبر مصدّر للنفط، فهي تلعب الدور الرئيسي في استقرار أسواق النفط وضبط التحركات في السوق والتنسيق بين دول أوبك وكان أثر ذلك واضحا في الشهور الأخيرة خصوصا مع حصول نقص في الإنتاج في بعض الدول لأسباب مختلفة. هذا الدور ليس من مصلحة أحد تعريضه لاهتزاز لأن ذلك قد يؤثر على أسعار النفط بشكل كبير وبالتالي على انتاجية الاقتصاد العالمي في وقت هو بأمس الحاجة للنمو بهدوء.
في المجال المالي والاستثماري تعمل المملكة باتجاهين، جلب الاستثمارات إليها وهذا ما يحصل عن طريق العقود التي تم توقعيها سابقا والتي يجري العمل على توقيع المزيد منها في مختلف المشاريع الكبرى، الاتجاه الآخر هو عن طريق الاستثمار في شركات حديثة سواء بشكل مباشر أو عبر الصناديق المختلفة مثل رؤية سوفت بنك وبلاك ستون. كل الشركات الحديثة تبحث عن مستثمرين وممولين، والسعودية كانت لاعبا فاعلا في السنتين الأخيرتين في هذا المجال وهي تسعى في السنوات المقبلة إلى رفع أصول صندوق الاستثمارات العامة الى 2 ترليون دولار، نصفها سيكون للاستثمار الخارجي حسب تصريح المشرف العام على الصندوق.
في الفترة الماضية، كتبت الصحف عن وجود قلق في مجتمع وادي السيليكون من أن تؤثر الأزمة على وجود الاستثمارات السعودية هناك. لا أظن أنه سيكون هناك أي تأثير لأن مصلحة جميع الأطراف أن تستمر الأمور كما هي بدون أي تشويش.
في رأيي أن ما يجعل السعودية في موقف مريح للتعامل مع الأزمة وإدارتها هي ثلاثة أمور: أولا حسن إدارة الملف النفطي ولعب دور مؤثر فيه، فوجود النفط بدون دور مؤثر لا يكفي. الأمر الاخر هو وجود خطة مستقبلية ورؤية يتم إدارة الجزء الاستثماري منها بشكل مميز مما يجعل مجتمع المال والأعمال يبحث عن دور وحصة فيه. الأمر الثالث هو وجود خيارات مختلفة للتعامل معها متى دعت الحاجة مثل روسيا والصين، وربما كان من المناسب الان تفعيل التعاون مع الشرق بشكل أكبر.
الأزمة الأخيرة بدأت تأخذ مجراها الطبيعي قضائيا ودبلوماسيا بعد أن كانت تدار في الإعلام فقط. والإعلام سيأخذ مزيدا من الوقت ليوقف حملاته بسبب وجود الأجندات السياسية والدولية، ومع الوقت أيضا سيتم معالجة الضرر الذي سببه الإعلام. ومن المهم الإشارة إلى أنه لو لم تكن إدارة الوضع الاقتصادي متينة، لتمكنت الحملات الإعلامية من إحداث ضرر كبير. الاهتزازات في مراحل التحول وإعادة الهيكلة خطيرة جدا، لكن الاهتزاز لم يحصل والاحتمالات السلبية أصبحت خلفنا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال