الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
اذا أردت أن أختصر اقتصاد عصر المستقبل في بضع تقنيات ستحدث تغييراً جذرياً من وجهة نظري فـ سأذكر:
– البيانات الكبيرة Big Data
– إنترنت الأشياء
– تقنية الواقع المعزز
– تقنية البلوكتشين
-تقنية الواقع الافتراضي
– تقنيات حوسبة الحافة
– ظهور شبكة الجيل الخامس
– أنظمة الأمن السيبراني التنبؤية
– تقنية الذكاء الاصطناعي وتطبيقات الحوسبة المعرفية
ولتعزيز تلك التقنيات لابد من التركيز على موائمة تلك التقنيات مع:
– برامج الإستدامة الوطنية في جميع القطاعات
– برنامج جودة الحياة وتطلعاته
في المستقبل، سيتحول العالم بالكامل إلى الاقتصاد المعرفي، ذلك المصطلح الذي أصبح كثير التداول مؤخراً في الإعلام، لكنه ما يزال غير ملموس في كثير من الدول العربية حتى وقتنا هذا. ويحاول الكثير التنبؤ بما سوف يكون عليه الاقتصاد العالمي في المستقبل، وكيف ستتأثر المنطقة العربية بذلك، وكيف يمكن للفرد العربي أن يتأثر بما سيحدث بالاقتصاد العالمي في المستقبل، إذ تغيرت حياة الفرد خلال العشرين سنة الأخيرة بسبب التطور الملحوظ في تكنولوجيا المعلومات والاتصال ووسائل المعرفة، حيث يرتبط علم الاقتصاد بالإنسان ومعيشته وهناك العديد من الصور التي يمكن توقعها والتي ستؤثر بصورة كبيرة ليس فقط على الدول والمؤسسات بل والأفراد أيضاً.تغيّر شامل سيطرأ على مفهوم الانفاق، وستتحول السلع الاستراتيجة إلى سلع رفاهية، كما أن تغيّراً جذرياً سيحدث لمفهوم الفقر وعدد الفقراء في العالم، فضلاً عن ارتفاع دور التجارة الإلكترونية، وعما سيحدث في مفاهيم البطالة بسبب التقدم التكنولوجي وإحلال الآلة تدريجياً محل العمالة البشرية. إذاً هي خريطة عالمية تتغير يومياً، فمن لا يمتلك قوة اقتصادية في المستقبل لن يستطيع البقاء.
سيشكل التعليم المورد الأهم للتنمية الاقتصادية في ظل الاقتصاد المعرفي بل ويمكن الاستفادة من منظومة التعليم والتدريب بصناعة المواهب في كافة المجالات، وبالتالي التأثير على الاقتصاد والتنمية، كما سيكون للتعليم أشكالاً غير تقليدية في المستقبل، إذ سينتشر التعليم عن بعد أكثر بكثير من الآن، وسيحتاج إلى تخصصات جديدة ومختلفة، وستختفي أو ستقل الأهمية النسبية لبعض التخصصات الجامعية الحالية، وبالتالي ستؤثر حتماً على مستوى التوظيف في العالم. كذلك ستختفي المهن التقليدية تدرييجاً كالمحاسب والمهندس وستظهر أدوات أكثر تطوراً في المهنة.
ومن الخطأ الكبير أن نجد بعض الطلاب ليس لديهم اطلاع على رؤية 2030 ومستقبل وخطط كافة القطاعات الحكومية والخاصة، ومعرفة تامة بالوظائف التي سيزيد الطلب عليها أو المستحدثة، والتخصصات التي تسعى وزارة التعليم لدعمها لتأهيل الكوادر التي تساهم في تحقيق الرؤية فور تخرجها، ولقد أكد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حفظه الله في خطابه الأخير أمام مجلس الشورى على ما تمت التوصية به من قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حفظه الله حول تخصصات المستقبل فالجاهزيه للمستقبل أهم من النتائج وهذا يؤكد على سياسية المملكة في هيكلة القطاعات الإقتصادية وتوجهاتها الإستثمارية لإستيعاب هذه التخصصات والوظائف المستقبلية.
في عالم اليوم الممتلئ بالاختراعات التقنية، فإنه من غير المستبعد أن يتحول المساعد التنفيذي في المستقبل من النمط التقليدي الذي نعرفه إلى مدير علاقات شخصية افتراضية (افاتارAvatar)، وقد تكون مهنة الطهاة المتخصصين في مجال الأطباق المطبوعة بالتقنية ثلاثية الأبعاد أو محللي حركة مرور الطائرات بدون طيار هي أسماء لمهن غير مشهورة في وقتنا الراهن، إلا أن هنالك كثيراً من المسميات الوظيفية التي قد تجعل الكثيرون يعيدون النظر فيما يعرفونه.
وبدءًا من الأعمال التي تُركز على مبدأ الاستدامة وانتهاءً بالمهن التي تُدير التقنيات المستقبلية مثل أجهزة الروبوت، فإنه لا يخفى أن التكنولوجيا الحديثة تحمل تأثيراً ضخماً على الصورة العامة للمهن التي ستكون متاحة في سوق العمل مستقبلاً، ومع رؤية 2030 أصبحت هناك تخصصات مهمة تفتح المجال لوظائف مستقبلية محتملة، القانون المتخصص، مثل قانون الطيران التجاري، قانون الحوكمة، قانون التجارة الدولية، وتخصص تحليل البيانات. أذكر عندما كنت أعمل في إحدى شركات التأمين العالمية كنّا بحاجة إلى محلل بيانات طبية سعودي/ سعودية وكنت وقتها الوحيدة سعودية الجنسية بجانب بريطانيين بعد أن اجتزت اختبارات تعجيزية تشمل تخصصات طبية مختلفة ولكنها كانت نادرة وقتها جداً!
أيضا من التخصصات المطلوبة تخصص الأمن السيبراني، والمحاسبة، والتأمين، الموارد البشرية. والطاقة البديلة، والذكاء الاصطناعي، والتجارة الإلكترونية، وغيرها الكثير من التخصصات التي يجب على طلاب الجيل الحالي الاستفادة منها وفق رغباتهم، وكلما كانت خطواتهم واثقة وتعرف أين تضع قدميها كلما أفسحت لهم الطرق نحو المستقبل الذي يحلمون به، وتُمثل الْيَوْمَ وفِي المستقبل التقنيات الحديثة مثل الطائرات الصغيرة وأجهزة الروبوت وأجهزة الواقع الافتراضي فرصاً غير محدودة للأعمال والشركات الحديثة على حد سواء للاستفادة من قوتها ودقتها، من المسارات والتخصصات التي تشق طريقها نحو المستقبل، قيادة طائرات بدون طيار أو طائرات *درونز* هذه المهنة تمثل احتمالاً ضخماً لمستقبل تكثر فيه الصناعات والمسارات المهنية، والتي تتراوح من تلك الموجودة في الجيش إلى مجال تعبئة منتجات المستهلكين، وسواء أتم تطويرها لأغراض الأبحاث أو مهام سرية أو جلسات تصوير فنية أو ببساطة لتسليم آخر طلبات المتاجر، وسوف يتمتع أولئك الذين بوسعهم قيادتها بفرص عمل كثيرة، وسيكون لديهم حرية الاختيار من بينها.
أيضاً، تصميم الملابس بطابعة ثلاثية الأبعاد، إن عالم الموضة لا يتمتع بحصانة ضد تأثير التكنولوجيا، فقد ظهرت في السنوات القليلة الماضية تصاميم أنجزت باستعمال الطابعات ثلاثية الأبعاد، وقد عرضت في عروض الأزياء بدءً من ميلانو في ايطاليا وانتهاءً بمدينة نيويورك، وقد لفتت الجواهر والإكسسوارات وحتى ملابس السباحة الأنظار في هذا المجال، وتُقدم الطباعة الثلاثية الأبعاد إمكانيات تصنيع غير مكلفة، وبما أن هذه التقنية تتطور، فقد بدأت تغزو الأسواق، ومن المتوقع أن تواصل ثورتها مما سيحدث تغييراً جذرياً في مجال عمليات التصميم وصناعة الملابس التي نعرفها اليوم .
تخصص الهندسة المعمارية للواقع الافتراضي، أصبح مصطلح “الواقع الافتراضي Virtual Reality” أحد المصطلحات الطنانة ضمن عدة صناعات عدة بدءًا من تلك المرتبطة بالترفيه، مروراً بألعاب الفيديو والأفلام، وانتهاءً بمجال العناية بالصحة، ويُطبق اليوم الواقع الافتراضي المعزز كواحد من أشكال العلاج. وتمثل هذه التقنية فرصاً هائلة للمصممين المهتمين في الحصول على فرص جديدة ومثيرة للعمل في المستقبل.
تخصص التدريب الرياضي والصحي بالتدقيق الكمي الذاتي، لقد قارب على الانتهاء عصر المدربين الشخصيين، وجاء عصر التدقيق الكمي الذاتي وبإتباع هذا الأسلوب نصبح قادرين على تعقب كل شيء بدءًا بمقدار السعرات الحرارية المتناولة يومياً إلى متوسط معدل ضربات القلب إلى مستويات الإرهاق الجسدي، لكن معرفة الأرقام ببساطة لا تحسن من أنماط حياتنا، إلا أن القدرة على استخلاص هذه البيانات ورسم خطة غذائية أو رياضية مميزة تُمثل مساراً مختلفاً كلياً، ويخلط هذا المسار المهني بين مهارات أخصائي التغذية والمعالج الفيزيائي مع تحليل البيانات، وقد تكون مناسبة جداً لأي شخص مولع ومتمكن من هذا المجال التقني.
تحمل التقنية تأثيراً كبيراً على حياتنا اليومية، بما في ذلك فرص العمل المتاحة للخبرات الشابة والباحثين عن العمل المؤقت على حد سواء، لكن البقاء في الطليعة وعلى إطلاع بهذه المسارات المهنية المستقبلية قد يساعد الخريجين على العثور على عمل في مجال مربح وواعد تكون التكنولوجيا عصبه وشريانه، وهناك مهن ترتكز على مبدأ الاستدامة، مع ازدياد عدد الشركات التي تركز على التقليل من النسخ الورقية أو الكربونية والعمل وذلك ضمن الجهود العالمية لبناء مستقبل صديق للبيئة يقلل من استهلاك الطاقة، حدثت مؤخراً طفرة في المهن التي تهتم بالبيئة، كالتخطيط الحضري للمدن الذكية، يتوجب على مخططي المدن والمعماريين أن يراعوا في وقتنا الراهن ليس فقط تدفق حركة المرور فحسب، بل عليهم أن يراعوا نوع حركة المرور التي تعيق حركة شوارعنا (أو سمائنا) بعد 20 أو 30 سنة قادمة، ويتعين على هؤلاء المخططين الذين يركزون على المستقبل أن يفكروا في كيفية إدخال التقنيات الذكية في الأبنية والشوارع وحتى مواقف السيارات وكيف سيقومون بإجراء تعديلات ملائمة على البنية التحتية، وهذا يرتبط إلى حد بعيد بالمسائل البيئية ومصادر الطاقة المتجددة وتحويل “المدن الذكية” إلى مدن بمصادر مستدامة.
هندسة حلول الشبكة الذكية، أصبح مفهوم الشبكة الذكية محط انتباه واهتمام المخططين والمعماريين المدنيين والخبراء في المصادر المستدامة على حد سواء، وبإمكان جمع مصادر الطاقة الفعالة مع المرافق التقليدية أن يساعد في الوصول إلى مدن أكثر نظافة وأكثر اعتماداً على الطاقة المتجددة في المستقبل. هذا المسار المهني المليء بالعراقيل سيصبح أحد الخيارات المغرية للمهندسين والخبراء التقنيين، أيضاً التخصصات المرتبطة بإدارة البيانات والإدارة المالية، البيانات الضخمة توفر فرص عمل مهمة هذه الأيام، وهذا ما يعرفه تمام المعرفة خبراء البيانات ومحللوها في المفاهيم والممارسات العصرية مثل التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي زادت من حدة المنافسة، مثل هندسة البيانات الضخمة، انتقل تحليل البيانات إلى نطاق أكبر، وعبر القدرة على التفسير والتقدير لكميات البيانات المخيفة التي سيحملها المستقبل خاصة مع انتشار انترنت الأشياء ، فذلك يعني فرص عمل كثيرة للباحثين عن العمل في هذا المجال المتنامي.
أيضاً تداول العملات البديلة وتقنيات الـ Fintec قد يعتري البنوك والمحللين الماليين في المستقبل القلق إزاء أمور أكثر أهمية من سعر الجنيه الاسترليني أو اليورو أو الدولار، إلا أن العملات البديلة مثل عملة (بيتكوين Bitcoin – وهو برنامج للدفع عبر الانترنت) قد تكون المصدر المحتمل لإطفاء نجم المؤسسات المالية التقليدية والبنوك، وانبثاق مهن جديدة جرّاء ذلك. وفي ذروة نجاح بيتكوين، سيكون بوسع “الشركات الصغيرة” على سبيل المثال جني أرباح غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن قيمة عملة بيتكوين تتأرجح منذ نشأتها،إلا أن كثير من المختصين يتوقعون أنه حتى من ناحية الفكرة فإن هناك عملات بديلة ستظهر وتكون فرصة استثمارية هائلة، ولا ننسى تخصصات البلوكتشين بمختلف فروعها.
تخصص إدارة أعمال التجارة الالكترونية، تُطّور شركات البناء والحديد الذكية مجتمعات شاملة لها عبر الشبكة، وهناك كثير من شركات البيع بالتجزئة عبارة عن واجهات عرض للنسخ الرقمية، ومدراء الأعمال على دراية تامة بتحسين محركات البحث وتكتيكات التسويق عبر البريد الالكتروني والشبكة، وتأتي إدارة المحتويات وتوزيعها في قمة مهن التجارة الالكترونية المنافسة.
حقيقة لا نريد التسليم بالمسمى الذي يطلقه العالم على الثورة الصناعية الرابعة وهو تسونامي التقدم التكنولوجي، فتسونامي، كما هو معروف، إعصار اجتاح السواحل اليابانية، وخلف آلاف القتلى والمفقودين.
الانطباع الأول حول هذا المسمى أنه باغت العالم ولم يتوقعه أحد ونتج عنه الكثير من الخسائر في الممتلكات والأرواح، فهل حقاً هذا ما نريده من الثورة الصناعية الرابعة التي ستشكل ملامح مستقبلنا القريب؟ أم أن هناك إمكانية لقراءة التحولات والاستعداد لها بجهوزية كاملة بحيث نتحكم بتوجهاتها ومخرجاتها لتكون عظيمة الفائدة وقليلة الخسائر؟
لو كان التطور عملية تتم من تلقاء ذاتها بدون تعب أو استعداد للمستقبل، لوجدنا جميع الأمم في مستوى واحد، ولكُّنا نعيش الآن واقعاً خالياً من المشكلات والتحديات. لكن التطور عبر التاريخ، كان ولا يزال ثمرة لمجهود مجموعات كبيرة من الناس بمختلف تخصصاتها وخبراتها أبدعت وابتكرت واخترعت أدوات غدها، والتطور هو أيضاً ثمرة لرؤية قيادة أبدعت في سياساتها ونظرتها بعيدة المدى، وقادت شعبها بإصرار نحو المستقبل وحرصت على توفير كافة المقومات التي تجعل هذا المستقبل أفضل بكثير من واقعها وأكثر ملاءمةً لتطلعات شعبها.
يجب الإقرار بحقيقة أن التسارع الذي تشهده ساحة الابتكار العلمي، وما أضافته من اختراعات واكتشافات، رافقها في الوقت ذاته، مزيد من التفاوت بين الشعوب وارتفاع في مستويات الفقر والبطالة، وتفكك المجتمعات، وتنامي الكراهية والتطرف والصراعات التي تجعل من الوجه الحضاري للمرحلة كأنه مجرد قناع جميل يخفي خلفه ملامح قاسية تخلو من الإنسانية، وإلا فكيف نفسر بقاء الفقر والبطالة في البلدان ما دون النمو بالرغم من الثورة في وسائل الإنتاج وانفتاح الحدود أمام تدفقات رؤوس الأموال والبضائع؟ وكيف نفسر انتشار الأمراض الجديدة وعجز الأجهزة الصحية عن توفير وقاية أو علاج – وإذا توفر فهو بعيد عن متناول الغالبية من الفقراء حول العالم؟ وكيف نفسر أن في بعض الدول هاتف ذكي واحد على الأقل لكل مواطن بينما هناك نحو 4 بلايين شخص في العالم بدون اتصال بالإنترنت و1.3 بليون بدون كهرباء بليونان بدون تعليم أساسي؟ وكيف نفسر احتدام التناقض بين الثقافات الأعراق والمذاهب وتنامي الصراعات على الرغم من ثورة التواصل وتقنيات الاتصال التي يفترض أن تقرّب الناس لا أن تفرقهم؟ والأهم من هذا كله كيف نضمن ألا تكون الثورة الصناعية الرابعة مجرد تكرار لكل الطفرات التكنولوجية التي سبقتها؟
إن الإجابة على السؤال الأخير تكمن في محاولة تفسير الإشكاليات التي طرحناها، ولا يوجد تفسير أكثر دقة من أن التطور التقني كان نخبوياً بالمطلق. فئات قليلة استفادت من طفرة التكنولوجيا وبقيت الغالبية متأخرة عنها بمئات السنين وليس بعشراتها. هذه النخبوية سببت تخمة في الإنتاج والاستهلاك وأضرّت بمسيرة النمو الاقتصادي العالمي، بل تسببت في أزمات مالية ضخمة وستسبب أزمات أكبر إذا لم يصحح العالم مفهومه عن التنمية وإذا لم نتسلح بالجهوزية الكاملة.
إن الجهوزية للثورة الصناعية الرابعة المقبلة أهم بكثير من نتائجها، وهذه الجهوزية تكون أولاً بمراجعة نقدية جادة لأخلاقيات الاقتصاد والسياسة على مستوى العالم أجمع، لتأمين عاملين أساسين، عامل الوقاية وعامل المبادرة.
الوقاية تعني أن نضع مسبقاً المبادئ العامة التي توجه التطور التقني والاختراعات نحو خدمة الناس، فتحديد وظيفة الاختراع العلمي تفوق في أهميتها وجود الاختراع ذاته، والتجربة أثبتت أن ليس كل اختراع أو تقنية قد وظفت في مكانها الصحيح… بعض الاختراعات العلمية كانت أدوات إبادة وتخريب، والبعض الآخر كان احتكار الأقلية لمصير الأغلبية، وبعضها بات يعتبر تهديداً للعلاقات الاجتماعية، وقد عبّر «كلاوس شواب» في منتدى دافوس العالمي 2017 عن ذلك حيث قال: «هناك سلبيات تحملها الثورة الصناعية بقدر ما تحمل من إيجابيات».
وللاستفادة من الإيجابيات ودرء السلبيات، نأتي للحديث عن الشق المبادر من الجهوزية الذي يعني إنجاز توافقات دولية حول الكيفية الأسلم لتوظيف التقنيات الحديثة لما فيه خير الشعوب، فتقنيات اليوم قادرة إذا وُظفت بالشكل السليم أن تحل المعضلات الكبرى للمرحلة، مثل التغيّر المناخي والاحتباس الحراري، وتحقيق الأمن الغذائي، وتطوير التعليم والبحث العلمي، وتعزيز الابتكار في الطب وتطوير علاجات للأمراض المستعصية، والارتقاء بمستوى الخدمات الحكومية المقدمة للجمهور.
التوافقات الدولية حول هذه المبادئ العامة، يجب أن يقودنا في مرحلة متقدمة إلى تشريع هذه التوافقات وقوننتها، والتركيز على تحويلها إلى ثقافة ووعي لجيل كامل من شباب اليوم الذين سيصبحون بعد سنوات قليلة قادة المستقبل، فتأهيل الشباب في ظل واقع علمي يتطور باستمرار، وانفتاح لا حدود له على المعلومات، لا يعني فقط تسليح عقولهم بالمعرفة والعلوم، وتوفير مؤسسات أكاديمية حديثة، بل وتعزيز وجدانهم أيضاً، وحماية قيمهم الإنسانية التي ستشكل ناظم عملهم ومحدد غاياتهم.
والحديث عن الشباب، يحيلنا تلقائياً نحو تناول الشق الأهم من جهوزيتنا لمخرجات الثورة الصناعية الرابعة وهو التعليم، فكيف يمكن للتعليم أن يؤنسن التكنولوجيا ويغيّر من وظائفها؟ وكيف يمكن أن نوازن بين احتمالات أن يتولى الجيل القادم من الذكاء الاصطناعي -الروبوتات -تعليم أبنائنا، وبين الحفاظ على القيم الإنسانية التي يجب أن تكون أهم مخرجات التعليم في المستقبل؟ لا نريد أن نقفز من واقع التعليم الحالي إلى واقع مختلف تماماً بدون ضمان أن يؤدي قطاع التعليم وظيفته التي ذكرناها مسبقاً، وهي تنمية العقول والوجدان في آن.
علينا أن نركز في توجهاتنا الإستثمارية المستقبلية على حل إشكالات النمو السكاني العالمي والأمن الغذائي، وكيفية استخدام المعالجات الجينية للبذور والتربة لتحقيق وفرة الغذاء وإتاحته للجميع بدون استثناء، ومكافحة عوامل البيئة المناقضة لهذا التوجه، وتركيز الاستثمار العالمي في البلدان النامية على تحسين شروط الزراعة والثروة الحيوانية وتعليم السكان تقنيات الإنتاج الحديث.
وعلينا أن نسعى لتوظيف مخرجات التطور التقني لتطوير القطاع الصحي ورفع كفاءته في مكافحة الأمراض السارية والطارئة، وضرورة اعتبار أن العالم قرية واحدة ومجتمع واحد، وصحة كل فرد في هذا العالم مسؤولية كافة الحكومات والهيئات الدولية، فهل يعقل أن نعتبر العالم قرية واحدة عند الحديث عن التجارة وتوظيف الموارد، ولا نعتبره كذلك عند الحديث عن صحة الناس ومستوياتهم المعيشية؟
نحن بحاجة ماسة في هذه المرحلة بالذات للنظر بنقدية علمية للقطاعات الاقتصادية القائمة على ضوء ما ستدخله التكنولوجيا من ذكاء صناعي على سلسلة الإنتاج والإدارة والتسويق. لقد عبّر العالم عن مخاوفه أن تكون البطالة إحدى نتائج استبدال البشر بالذكاء الصناعي، لكن هل صحيح أن البشرية قادرة على اختراع هذا الذكاء وتطويره ولكنها عاجزة عن تطوير القطاعات الصناعية التقليدية واستحداث أخرى للحفاظ على وظائف البشر؟ إن النظرة لطبيعة اقتصاد المستقبل يجب أن تتغير، فالقطاعات القائمة اليوم ليست هي ذاتها قبل مئة عام، والثورة الصناعية الأولى التي جاءت بالآلة، خلقت بالمقابل فرصاً جديدة للعمل وارتقت بمهارات البشر لتتناسب مع التحولات الصناعية الكبرى، وأسست لشكل جديد من المجتمعات والعلاقات الاجتماعية، ولنوع جديد من العلوم والمعارف والتفكير. الخشية أن يتحول تراكم الثروة وتركيزها الذي نتج عن تقنيات التصنيع والتسويق الحديثة إلى عائق أخلاقي أمام أنسنة مخرجات الثورة الصناعية القادمة. قد يكون العالم اعتاد التفاوت، واعتاد وجود مليارات من البشر يعيشون بشكل بدائي محرومون مما أنتجته الحداثة واعتاد مشاهد الموت والدمار. والأسوأ من ذلك، أن هذه الظواهر أصبحت مصادر دخل لأعمال تدر المليارات من الدولارات على المؤسسات التي تتاجر بعذابات البشر.
إن إعلان هيئة الأمم المتحدة لأهداف التنمية المستدامة للعام 2030، يشير إلى إمكانية أن العالم تنبّه لمدى خطورة العلم بلا إنسانية والتقدم بدون غايات سامية، لن تستطيع الأمم المتحدة وحدها أن تحقق غايتها التنموية بدون خطط وبرامج تتجاوز في أهدافها توسيع عملية الإنتاج لتصل إلى توسيع آفاق وجداننا وهويتنا الإنسانية. علينا أن نسبق الإنتاج المادي للطفرة التقنية بإنتاج معنوي: أدب وثقافة وفلسفة وقيم ومعايير واضحة ترتقي بشكل وجودنا الاجتماعي. وعلينا أن نتفق على حل مشكلات الجوع والفقر والأمية والبطالة والتفاوت كعوامل مشتركة مضمونة بقوانين وضوابط.وعلينا أن نقي الناس الخوف من الجوع والحاجة والموت…
فالخوف أساس كل ما نشهده من صراعات وعنف وكراهية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال