الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أضحت المنظمات في وقتنا المعاصر أكثر تعقيداً من ذي قبل، ويعزى السبب في ذلك إلى عوامل عديدة أدت لذلك التعقيد ومن تلك العوامل (التطور و النهضة العلمية التي كانت الشرارة لانطلاق الثورة الصناعية خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر والتي كان لها الأثر الكبير على إحداث تحول في المنظومة الاقتصادية و الاجتماعية في المجتمعات البشرية التي حدثت بها، ومن ثم التي تأثرت بها. وكذلك ساهم هذا التطور العلمي أيضاً في إحداث طفرة في اكتشاف معادن الأرض وثرواتها (نوعاً) و(كماً) وتعظيم فرص الانتفاع منها.
ومن الأسباب كذلك حركة العولمة لا سيما الجانب الاقتصادي فيها وما عززه ذلك من الانتشار وسهولة الوصول للمستفيدين و إزاحة الحدود وتقليص القيود ورفع مستوى الحرية الاقتصادية وتذليل العقبات أما تهيئة مناخ استثماري، ومن الأسباب كذلك هو التطور التقني المتسارع وماصاحبه من ثورات تكنلوجية انسحبت على عالم الأعمال وخلقت صناعات و أسواق جديدة وغيّرت مفهوم المنافسة باستخدام أساليب الإبداع و الإبتكار وكما يقال الفوضى الخلّاقة) ومهما تعددت الأسباب فإن يكون المحرك الأساسي لها هو الغريزة البشرية وسعيها الحثيث والدائح نحو المدنيّة والانخراط في الحضارة كما ذكر ذلك ابن خلدون في مقدمته.
فأصبح المجتمع المدني اليوم يزخر بكم هائل من المنظمات التي تحيط به عبر علاقة طرفية تتبنى تبادل المصالح المشتركة بين الطرفين بصرف النظر عن مآلات تلك العلاقة وأهدافها المتنوعة. ففي الوقت الحاضر يبدأ الإنسان علاقته مع المنظمات حتى قبل أن يولد إذ يتعامل أبواه مع المستشفى والذي هو في النهاية (منظمة صحية) وبعد ولادته و نشأته فإنها تتطور علاقته مع المنظمات الأخرى كمنظمات (التعليم، والسلع والخدمات الأساسية، والتنقل، والتواصل، والترفيه، والعمل، والتجارة و الاستثمار، إلى غيرها من المنظمات التي يختار أو يجبر من خلالها على تمضية أسلوب حياته) التي تستمر معه حتى نهاية دورة حياته بل وفي بعض الحالات تستمر مع بقاياه (كالسجلات، والإرث، والأعمال، والذرية).
وهذه التطوّر الذي أصبح حقيقةً وواقعاً نعيشه اليوم أدى إلى خلق ضرورة ملّحة لكافة أطياف المجتمع وأثار فضول المهتمين من المتأثرين و المؤثرين على حد سواء، فالحكومات مؤثرة و متأثرة بهذا التطور وبالتالي تحرص بشدة على أن يكون في صالح أهدافها ويتماشى مع رؤاها هذا من جانب، ومن جانب آخر فهي أيضاً تقع ضمن تعريف المنظمة وحرصها يمتد إلى مواكبة التطور لتعزيز نموها و ديمومتها و استقرارها، وفي الطرف الآخر تأتي منظمات الأعمال والتي تلتقي أهدفها مهما تنوعت إلى تمثلها في الاستقرار والنمو والاستمرار، ويقوم المجتمع بدوره أيضاً في هذا النطاق (لاسيما وأنه المتأثر النهائي) عبر كافة أطيافه من العلماء المتخصصين و الباحثين و المهتمين والإعلامين و المستهلكين.
وكنا قد عزينا السبب في بداية هذا المقال إلى عدة عوامل أدت إلى تعقيد المنظمات في وقتنا الحاضر فضلاً عن تزايدها في الكم و النوع، ولكنها من زاوية نظر أخرى فقد يمكن تفسيرها على أنها عوامل (نشأة و وجود) بالنسبة لكياناتها أما عوامل (الاستمرار و الاستقرار والنمو و التوسع و الانتشار) فتعزى إلى منهجيتها التنظيمية واسلوبها الإداري الذي يلقى على عاتقه مسؤولية قيادة دفة المنظمة وتوجيه بوصلتها لاسيما وأنها تأثرت بالتطور و التحول في مفاهيم و نضريات علم الإدارة الحديث الذي نشأت عنه أساليب جديدة أحدثت فارقاً كبيراً في عالم الأعمال وعزز من ميزتها التنافسية.
في حين تجاهل هذا التطور وعدم مواكبته أدى إلى تعثر بعض المنظمات واختفاء البعض الآخر وتشمل تلك الأساليب والمنهجيات الإدارية كافة جوانب المنظمة (الموظفين، العمليات، المالية، القطاع التجاري، العلاقات، العناية بالعملاء، إلخ …) فعلى سبيل المثال في القطاع التجاري نشأت أساليب متجددة في إدارة قطاع المبيعات و التسويق وتنمية الفرص الاستثمارية من خلال منصات كالعمل المباشر، أو من خلال التحالفات أو التكتلات أو الإئتلافات أو الشراكات أو الإندماجات والتي باستطاعتها تغيير الموازيين وإحداث فارق في حياة المنظمات، وهذا بدون ادنى شك يستلزم (الحوكمة) لتكون أرضيته و أساسه الصلب وفي حين غيابها قد يؤدي إلى مآلات لا تحمد عقباها .
وهنا يأتي مفهوم الحوكمة كأحد المرتكزات الأساسية للمنهجية التنظيمية و الأسلوب الذي تدار من خلاله المنظمة، فكما جاء تعريف هذا المفهوم في تقرير (كادبوري عام 1992م) بأنه (النظام الذي تدار بمقتضاه الشركات و تراقب)، وبالبحث عن جذور هذا المفهوم (الحوكمة) فهو موجود منذ القدم من حيث الممارسة في المنظمات على مدى القرون الماضية، وتتجلى تطبيقاته في الممارسات التي اتبعتها تلك المنظمات والتي ضمنت لها استمراريتها، بينما من حيث المفردة اللغوية لكلمة الحوكمة (Corporate Governance) فقد كان أول ظهور لها هو سبعينيات القرن الماضي حينما قامت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية (SEC) بتناول قضية حوكمة الشركات وجعله في مقدمة أولوياتها وظهر مصطلح “حوكمة الشركات” في عام 1976م لأول مرة في السجل الفيدرالي الأمريكي، وهو الجريدة الرسمية للحكومة الفيدرالية.
وكان ذلك على أعقاب أكبر قضية إفلاس مرت على أمريكا في ذلك الوقت حيث أعلنت شركة النقل Penn Central إفلاسها عام 1970م بعد سلسلة من النجاحات في خططها التوسعية و الإندماجات و التنوع في الاستثمار وتسبب ذلك في أزمة اقتصادية، وبعد سلسلة من التحقسقات في الأمر اتخذت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية في عام 1974م مجموعة من الإجراءات القانونية ضد ثلاثة من الرؤساء وذلك جراء تقديمهم بيانات مظللة تجاه البيانات المالية للشركة، كما شملت الإجراءات مجموعة كبيرة من المدراء التنفيذيين لقاء خرقهم لقواعد مهنية تحت نطاق أعمالهم كانت السبب خلف هذا الانهيار.
وبنفس التوقيت تقريباً اكتشفت هيئة الأوراق المالية والبورصات مدفوعات واسعة النطاق من قبل الشركات إلى مسؤولين حول تزوير سجلات الشركات. الأمر الذي دفع الشركات لتشكيل لجان مراجعة داخلية والبدء بتعيين أعضاء مستقلين، الأمر الذي دفع هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية (SEC) لتوجيه بورصة نيويورك New York Stock Exchange (NYSE) لأن تطلب من الشركات الدرجة بأن تشكل لجان مراجعة داخلية لديها وبعضوية أعضاء مستقلين، الأمر الذي دفع المؤيدين لهذه الإصلاحات بالمطالبة بلجان مشابهة لإقرار المكافئات و الترشيحات و التعيين.
وكأي حركة إصلاحية فقد واجهت (الحوكمة) تيارات مقاومة بدعوى أنها تضع المزيد من القيود و تعرقل المرونة التي تتطلبها الشركات لدى صناعة قراراتها، الأمر الذي جعل الجهات التشريعية تصدر قانوناً عام 1980م بخصوص حماية حقوق المساهمين ، لكنه تعطل في الكونغرس. ومن المحاولات الإصلاحية المشروع الذي تقدم به معهد القانون الأمريكي (ALI) تحت مسمى (مبادء حوكمة الشركات) والذي واجه مقاومة ونقداً أدى إلى إضعافه وإصدار مسودات واحداً تلو الآخر إلى أن صدر عام 1994م دونما أثر يذكر.
وكذلك من أبرز الوثائق والتقارير التي ناقشت هذا المفهوم وأطّرت له هو مايعرف بتقرير كادبوري Cadbury Report (المملكة المتحدة، 1992)، نسبة إلى أدريان كادبوري الذي ترأس لجنة الجوانب المالية لحوكمة الشركات والتي شكلها مجلس العموم البريطاني والذي جاء مضمونه على مجموعة من الترتيبات بخصوص تشكيل مجالس الإدارات وهيكلية اللجان المنبثقة عنها وبيان أدوارها و مسؤولياتها والمدد المقررة لدورتها، وقد تم اعتماد توصيات ذلك التقرير لدى الإتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة الأمريكية والبنك الدولي وغيرها.
كذلك من أبرز التقارير التي ساهمت في إرساء مفهوم الحوكمة و تطبيقاته تقرير الملك (The King Report on Corporate Governance) والذي يعد إسهاماً رائدًا للمبادئ التوجيهية لهياكل الحوكمة وتشغيل الشركات في جنوب إفريقيا. وقد صدرت عنه مجموعة تقارير أولها كان في عام 1994م وآخرها في عام 2016م . يملك معهد المديرين في جنوب أفريقيا (IoDSA) The Institute of Directors in Southern Africa حقوق الطبع والنشر للتقرير عن حوكمة الشركات وقانون حوكمة الشركات وقد قال عنه أدريان كادبوري أنه يرى مستقبل الحوكمة في هذا التقرير كما تبنت بعض مبادئه أنظمة الحوكمة الاسترالية (ASX Corporate Governance).
وفي عام 1995م أصدرت فرنسا تقريراً Rapport Vienot بعدما عانت الأزمات المالية الي مرت بها بعض للشركات و كذلك في ألمانيا صدر قانون KonTraG الذي قدم معاييراً جديدة لحوكمة الشركات المدرجة في السوق الألماني ويعد التطوير الأول لقانون الشركات في ألمانيا منذ عام 1965م.
كذلك من التقارير ذات الأهمية حينما يتم استعراض تاريخ الحوكمة هو إسهام منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) إذ طرحت في عام 1998م تقريراً يستعرض مبادئ حوكمة الشركات. وهو ما أيده وزراء مالية دول مجموعة العشرين G20 بالاجتماع الذي عقد في عام 2015م والذي تم الاتفاق أن يطلق عليها مبادىء ال OECD/G20.
وفي نفس السياق جاء قانون ساربينز أوكسلي لعام 2002 (SOX) Sarbanes-Oxley Act Of 2002 وهو قانون أصدره الكونغرس الأمريكي في عام 2002م إذ يهدف إلى حماية المستثمرين من احتمالية قيام المنظمات بالأعمال المحاسبية الاحتيالية، واقتضى قانون ساربينز أوكسلي إصلاحات صارمة لتعزيز الإقرارات المالية من المؤسسات و لتجنب الاحتيال المحاسبي. كما تم إصدار قانون ساربينز أوكسلي كردة فعل لسوء الممارسة المحاسبية في بدايات هذا القرن عندما تضرر الاقتصاد الأمريكي جراءّ عدد من الفضائح العامة مثل فضيحة شركة إنرون و تايكو الدولية بي إل سي و وورلدكوم وطالب المتضررون بالإصلاح في المعايير الرقابية.
وكذلك في المملكة العربية السعودية وانطلاقاً من حرصها على تهيئة المناخ الاستثماري و التجاري فقد أصدرت هيئة السوق المالية عام 2006م لائحة حوكمة الشركات (للشركات المدرجة) كما أصدرت وزارة التجارة و الاستثمار في المملكة العربية السعودية لوائح وأنظمة لائحة حوكمة الشركات المساهمة غير المدرجة.
وهذا الحراك الذي يشهده العالم وحرصه الحثيث على تعزيز هذا المفهوم (حوكمة الشركات) هو مؤشر على ارتفاع درجة الوعي بأهميته والحذر من مآلات غيابه، لاسيما وأن مبادئ هذا المفهوم وجوانب تطبيقه تكون باعث طمأنينه لأصحاب المصلحة الذين يهمهم ازدهار كيان المنظمة ونموه وااستقراره. ولعل من أبرز مبادىء الحوكمة هي (تعزيز الشفافية و الوضوح، الإفصاح وعدم التضليل في المعلومات لاسيما المالية، وحماية حقوق المساهمين، وضمان إرساء أطر العدالة لكافة أصحاب المصلحة من موظفين و دائنيين وموردين ومستثمرين وغيرهم، والمسائلة و المحاسبة، وسيادة القانون، و درء تعارض المصالح) بينما تتمثل أبرز جوانب الحوكمة التطبيقية في (طرق تشكيل مجالس الإدارة وإيضاح أدواره و مسؤلياته ، الإستقلالية والمشاركة، تحديد أبرز اللجان المنبثقة عن مجالس الإدارة وأدوارها ومسؤلياتها ومدد دوراتها و نوعية أعضائها، و الإفصاح عن مكافئات كبار التنفيذيين، والفصل بين العضوية و الإدارة، وتعيين أعضاء مستقليين، وتولي أعضاء مستقلين رئاسة بعض اللجان).
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال