الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نقاش عميق منذ سنوات تم بيني وبين أستاذي في الدراسات العليا بجامعة الملك سعود حول أثر سعر الفائدة على قرارات الاستثمار في المجتمع السعودي. كان أستاذي يتبنى النظرية الكنزية بأن سعر الفائدة أحد أهم محددات الاستثمار، وكنت أقول أن النظرية صحيحة في الغرب لكنها غير صحيحة لدينا. انتهى نقاشنا بتمسك كل منا برأيه. بعد سنة من ذلك الحوار أجرى أستاذ الاقتصاد القياسي في القسم دراسة عن أثر سعر الفائدة في قرار الاستثمار في المجتمع السعودي، وكانت النتيجة مؤكدة لرأيي.
نتيجة الدراسة قد تكون مفاجئة لأي اقتصادي عالمي، لكنها بالتأكيد ليس كذلك لمن يعرف ثقافة المجتمع السعودي المتدين، والذي يقبل بقروض إسلامية عالية الأرباح مقارنة بنسبة الفائدة المنخفض في القروض الربوية. ربما تغير الوضع الآن لتغير كثير من الظروف، لا أدري.
ما أود قوله أننا بحاجة ملحة إلى اقتصاديين سعوديين تكون لهم الكلمة العليا في وضع السياسات المالية والنقدية للاقتصاد السعودي. وقناعتي أن العقول السعودية الاقتصادية موجودة ولديها المعرفة والتجربة وذات كفاءة عالية، لكن هناك عدة عوامل ربما كانت السبب وراء عدم بروز أي اقتصادي سعودي تكون له بصمته الواضحة في رسم السياسة الاقتصادية السعودية الخاصة به، من ذلك:
أولا ضعف البيانات الاقتصادية المنشورة كما ونوعا. وكثيرا ما أجد صعوبة في التأكد من بعض الأرقام المنشورة لنقصها من جانب، وتضاربها من جانب آخر. والتحسن الملحوظ في البيانات مازال بطيئا جدا. كما أن الإحصاءات لا تشمل كل البيانات الواجب توافرها للباحثين.
ثانيا محدودية وضعف المراكز البحثية الاقتصادية، سواء في الجامعات، أو الوزارات، أو المراكز المستقلة. ومازالت معظم الدراسات تعتمد على ما تفرضه واجبات الوظيفة، مع قلة التمويل والاهتمام.
ثالثا ضعف توثيق الممارسين لرسم السياسات الاقتصادية على المستوى الحكومي والقطاع الخاص، وباستثناء عدد محدود ممن مارس العمل الاقتصادي، فإن معظم القامات الاقتصادية السعودية لم توثق خبراتها ومعارفها وتجاربها في العمل الاقتصادي. كما أن معظم ما تم توثيقة لا يعدو عن كونه سير ذاتية خاصة بعيدة عن صلب العمل، كما ينقصها المنهجية العلمية في التوثيق. وهذا يضعف كثيرا قدرة الباحثين على تتبع السياسات الاقتصادية وتغيراتها وآثارها، ويعتمد الباحثون في ذلك على الأرشيف الصحفي الركيك، أو ما قاموا بتدوينه شخصيا مع ما يشوبه من نقص وتشوه وعدم وضوح.
رابعا ضعف تمكين الاقتصاديين السعوديين من رسم السياسات الاقتصادية الاستراتيجية، والاعتماد على المراكز البحثية العالمية، والتي مهما كان لديها من معارف وتجارب وخبرات، فإن جهلها بعمق المجتمع السعودي، بل وحتى بعمق الاقتصاد السعودي يجعلها تقع في كثير من الأخطاء والتجاوزات التي قد تكون نتائجها كارثية.
خامسا محدودية وضعف برامج الدراسات العليا في الجامعات السعودية، وتحديدا برامج الدكتوراه. فهي مع قلتها، غير مستمرة، وضعيفة. فقسم الاقتصاد بجامعتي الملك سعود والملك عبدالعزيز لا يوجد بها برامج دكتوراه في الاقتصاد. وقد سألت أساتذتي في جامعة الملك سعود عن هذا الأمر فقالوا أن السبب نقص الكوادر البشرية من الأساتذة القادرين على الإشراف على برامج دكتوراه ذات قيمة. وأعجب أن تظل الجامعات السعودية العريقة غير قادرة حتى الآن على تقديم برامج دكتوراه في تخصص من أهم تخصصات العلوم الإنسانية، التي تعتمد عليها الدولة بشكل أساسي؟؟!!!!
أخيرا الأثر المدمر للفساد الذي يجعل من رصد أي سياسة اقتصادية وتتبع أثرها شبه مستحيل. وعزل عامل الفساد عند دراسة السياسات والقرارات الاقتصادية أمر متعذر تماما؛ لعدم القدرة على رصد الفساد ذاته وعزله. وذلك يجعل الخطأ في أي دراسة أمرا مؤكدا، ليس بنسبة الخطأ المعتادة في الدراسة العملية، بل بنسبة خطأ ليس من السهل توقعها أو تتبعها وتحديد مسارها. وقد يكون الانحراف كبيرا جدا، أو لا أثر له، وذلك الغموض في نتائج الدراسات يتضح بداية من خلال البيانات المنشورة، ثم من خلال النتائج المضطربة والمشكوك فيها لدى الدارسين المتمرسين.
لذلك أدعو إلى إقامة مراكز بحثية اقتصادية بكفاءات سعودية، ويكون من مهامها دراسة الاقتصاد السعودي من واقع البيانات الفعلية، ورسم السياسات الاقتصادية التي تناسب اقتصادنا وثقافتنا. كما أدعو إلى تفعيل برامج دكتوراه الاقتصاد في الجامعات الكبيرة. وأخيرا التوسع في جمع ونشر البيانات في كافة المجالات.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال