الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
رسالة مفتوحة إلى مؤتمر القطاع المالي:
تمر المملكة بفضل الله بخطط تطويرية، ومتغيرات في السوق، كان من ملامحها تغير حال بعض القطاعات، فاضطراب العديد من المدينين، وتعثر وتأخر في سداد المديونيات، وبالذات مع الدائنين الأساس، ألا وهم البنوك وشركات التمويل.
وإنني كمحامي أغلب قضاياه مع المدينين، اسمحوا لي أن أصرح أن هناك اليوم إشكاليات في التعامل بين التجار المدينين ودائنيهم من البنوك، لخصتها الإحصائيات الآتية:
1- بحسب تصريح مؤسسة النقد العربي السعودي في أبريل 2019م، فإن عدد الشكاوى ضد البنوك وشركات التمويل والتأمين خلال عام بلغ (196) ألف شكوى، وبارتفاع (83.1%).
2- بحسب إحصائيات وزارة العدل المنشورة على موقعها الرسمي، فإن ما ورد لمحاكم التنفيذ فقط في عام 1439هـ من طلبات تنفيذ على السندات لأمر فقط، بلغ عدده (453.339) سنداً لأمر، بما يُعادل (67.5%) من جميع طلبات التنفيذ بشتى أنواعها وأغراضها، وبحسب تصريح آخر لمعالي وزير العدل فإن البنوك وشركات التمويل تُشكل ما يزيد على (75%) من طلبات السندات لأمر.
والمُستقرئ للواقع يجد أن البنوك تحرص للتوجه إلى قضاء التنفيذ مباشرة للتنفيذ على ما تحت يدها من سندات لأمر (كضمان للمديونية)، مُبتعدة بقدر الإمكان عن اللجوء إلى قاضي الموضوع (اللجنة المصرفية أو المحاكم التجارية والعامة)، وذلك لتُطالب بما تشاء، وتضغط كما تشاء، وإن تعسفت وإن أضرت!
3- وفي دراسة نشرها مجلس الغرف السعودية (1440هـ/2019م) بعنوان: (حصر أسباب تعثر المصانع في المملكة)، نجد أن السبب الأول الوارد فيها هو: (مطالبات القروض البنكية).
4- ليس لديَ إحصائية عن السجناء بسبب مديونيات البنوك وشركات التمويل، ولكني أعلم أن العدد كبير، تجار وأصحاب مصانع، سجناء لسنوات عدة، مُتعثرين بسبب تجارتهم غير قادرين على الوفاء.
والسؤال المطروح: هل يحمي القضاء وإجراءاته اليوم التاجر المدين بسبب ظروف السوق؟ أم أن التاجر وصاحب المصنع المدين تحت رحمة البنك الدائن؟! إن شاء سجنه وأقفل مصنعه وإن كان على حساب الاقتصاد الوطني ومصلحة التاجر! وإن شاء عَومَه وجَدوَل دينه وأرجأه!
يتأرجح التاجر المدين بين ثلاث محاكم، الأولى: محكمة التنفيذ: وأمامها يطلب البنك بالتنفيذ على السند لأمر، الممنوح ضماناً للدين، وأحياناً بكامل الدين وإن لم تحل الأقساط، متى تأخر المدين عن سداد بعضها، بحجة أن الاتفاقية تنص على ذلك، ويحكم القاضي بسجن التاجر المدين مُحرر السند، متى كان الدين أكثر من مليون ريال، وإن كانت تجارته بملايين الريالات، ولا يدخل القاضي في موضوع الدين وسببه بحجة أن ذلك من اختصاص قاضي الموضوع، ولا يمنحه أجلاً، إلا بموافقة الدائن، وفي الغالب إن استطاعت البنوك تحصيل مديونياتها ببيع عقار أو أصول طلبت التنفيذ عليها وبيعها بالمزاد العلني، وإن كان بثمن بخس، وإن كان ذلك فيه حرقاً للتاجر وصاحب المصنع وتجارته.
والكاتب يؤكد أن العلاقة بين قاضي التنفيذ وقاضي الموضوع، والعلاقة بين السند لأمر وموضوع الدين يحتاجان إلى مزيد من التأمل والتنظيم، ليس هذا المقال مجالاً للتفصيل فيها.
أما المحكمة الثانية، فهي: المحكمة التجارية، مُمثلة بقاضي الإفلاس، وباختصار فإن دعوى التسوية الواقية من الإفلاس منحت التجار اللجوء إلى المحكمة بطلب الحماية من الدائنين، وخولت قاضي الإفلاس منح التاجر تعليق جميع مطالبات الدائنين لمدة ثلاثة أشهر، قابلة للتمديد بحد أقصى ثلاثة أشهر أُخرى، على أن يتم موافقة ثلثي الدائنين على مقترح التسوية، وهنا – إن قررت البنوك الدائنة – ألا توافق على مقترح التسوية، مراعاة لمصلحتها فقط، فإنها غير ملزمة بالموافقة على التسوية مع التاجر، وقاضي الإفلاس لا يملك صلاحية إلزام البنوك الدائنة (وغير البنوك طبعاً) بمقترح التسوية، وبالتالي فشل مقترح التسوية، وعدم حماية التاجر المدين ولا حماية تجارته ومصنعه من التصفية والبيع. وهنا نجد أن نظام الإفلاس لم يمنح قاضي الإفلاس سلطة خلق التوازن في حماية مصلحة الدائن في تحصيل ديونه، وحماية مصلحة المدين من تعسف الدائن ومنحه الأجل والتقسيط، حماية للاقتصاد الوطني وثروات ومقدرات التجار والمصانع من التصفية.
أما المحكمة الأخيرة: فهي محكمة الموضوع، سواء أكانت المحكمة التجارية أو العامة، أو اللجنة المصرفية وهي قاضي الموضوع الأساس بالمنازعات المصرفية الأصلية وبالتبعية، فباختصار مهمتها تحديد الدين، دون الاستجابة لطلب تقسيط سداد المديونيات، أو إلزام البنك الدائن على جدولة المديونية وإن بربح.
إن ما سبق يؤكد أن القضاء المختص بالمديونيات يحتاج إلى رؤية حقيقية تتوافق مع رؤية والدي خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين حفظهما الله (2030) في النمو بالاقتصاد لا بإضعافه.
وفي الختام ومع يقيننا بحق أي دائن في المطالبة بحقوقه دون تسويف أو مماطلة من المدين، إلا أن ظروف السوق وتحديات التغيير تقتضي التوازن بين مصلحة الدائن في تحصيل دينه، ومصلحة التاجر المدين في حماية تجارته ومنحه التقسيط وجدولة السداد، توازناً بين سداد الدين وحماية التاجر من الإفلاس والتصفية، وحماية مقدرات البلاد – تجارة ومصانع- لتستمر المسيرة للجميع.
إن التوصية المُستفادة من هذا المقال، والموجهة إلى أصحاب القرار في مؤتمر القطاع المالي، تتمثل بالآتي:
أولاً: الشدّ على أيدي جميع بنوكنا الوطنية، بوصفهم شركاء تنمية، لا خصوم مع التجار، مراعاة ظروفهم ومتغيرات السوق، فلا يصح مثلاً أن تطالب مقاولاً وتوقف أعماله، وهو في الجانب الآخر له مُستخلصات متأخرة.
ثانياً: التوصية باستصدار التعديلات النظامية، لتمنح كلاً من قاضي الموضوع (وبالأخص لجنة المنازعات المصرفية) وقاضي الإفلاس وقاضي التنفيذ، حق تقسيط مديونية التجار وجدولة السداد، ضمن ضوابط تُنظم ذلك، تمنح التوازن لطرفي التعامل، وتراعي ظروف السوق.
وإن أستذكر، أستذكر أستاذي معالي الدكتور/ محمد بن حسن الجبر رحمه الله تعالى، حين عملتُ معه في اللجنة المصرفية وكان رئيسها، حيث لم يستجب للبنوك في مطالباتها ولم يُمكنها من الاستفراد بمدينيها، عندما تأخرت الدولة في صرف مستخلصات المقاولين، وكان ذلك في التسعينات من القرن الماضي، وحكم للتجار بتقسيط مديونياتها إلى البنوك، كقاضٍ له رؤية ثاقبة في حماية جميع مقومات الاقتصاد، بنوكاً وتجار.
وفق الله بلادي لكل خير.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال