الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
الأغلب تابع وتناول ما حدث قبل اسابيع، اتحدث عن اجراءات الحماية الأمريكية ضد شركة هواوي الصينية، وقبلها بأشهر تلك الإجراءات الضريبية المتبادلة بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، والتي توضع غالبا، ضمن قالب الصراع التجاري والإقتصادي، بين القوتين.
فيما الأمر ابعد واعمق من ذلك كثيرا، فهو بإختصار صراع سياسي استراتيجي بين بلد – امريكا – يحاول الاستمرار في السيطرة بقبضته على العالم، رغم تراجعه التكنولوجي والصناعي، ورغم إن هالتراجع لم يؤثر بعد على الثقل السياسي والعسكري، بالشكل الواضح، لكننا بالتاكيد نبدأ في رؤية تلك الآثار، والتي سوف تظهر بوضوح بعد عقد أو اثنين على الأغلب، هذه الهيمنة الإقتصادية والسياسية، التي تمارس بإسم العولمة، وعبر المؤسسات الدولية الحالية، السياسية والإقتصادية، التي خُلِقَت اساسا، من اجل أن تكون اداة هيمنة سياسية، قانونية، لتكريس التبعية الإقتصادية، وليس من تحرير التجارة، والتبادل الحر للسلع والخدمات، كما يقال في الخطاب المعلن والخادع.
وبين بلد – الصين – في طور الصعود، يحاول اكتساب المساحات والسيطرة، ولديه خطة استراتيجية بعيدة المدى، يتحرك في جميع الإتجاهات على اساسها، وإن شئت التشبيه، فهم يمارسون اسلوب اشبه بطريقة الشطرنج، فيدخلون لمساحة/ ارض/ سوق/ تكنولوجيا/ معينة، يثبتون اقدامهم فيها بشكل ممتاز، ومنها ينطلقون، بخيارات واحتمالات جديدة، لما يليها، الجدير بالذكر، أن الصين لا تحاول الخروج والتمرد على تلك المؤسسات التي تمارس عبرها العولمة، بل تعمل من داخل ذلك النظام، لتكون شريكة في ادارته، في المرحلة الإولى، ثم مهيمنة عليه بعد عقود.
على الرغم من ادراكها أن ما يمارس ضدها حاليا، وما مورس ضد النمور الآسيوية قبل عقدين، هو حلقة جديدة، من ضمن عملية ممنهجة، هدفها ابقاء المركز الغربي، مسيطرا على النظام الإقتصادي الدولي ومؤسساته، كي يتم الاستمرار في الهيمنة السياسية والإقتصادية عبره، وعلى الرغم تأكدها من انهم افقدوها نصف ثروتها قبل عقدين لنفس السبب.
والاستراتيجية الصينية تعتمد طريقتين لذلك، السيطرة على مواقع خارج حدود الخصم/ اهتمامه الحالي، لمنعه من التقدم لها لاحقا، أوالاستمرار فيها وكسبها، وتضييق توسعه، تفعل هذا في افريقيا، بدخولها بقوة واندفاع، تجاري ثم سياسي، لأسواق افريقيا السمراء، بقناع اقتصادي تنموي، ودون بهرجة إعلامية، لتحقيق اهداف اقتصادية وسياسية كحصص مهيمنة في تلك الأسواق، ونفوذ سياسي، بدون حمولة المطالبات السياسية، ورغبة الهيمنة الظاهرة، التي تحاول أن تمارسها امريكا، والغرب عموما، على القرار السياسي في تلك الدول، وهذا شجع الحكومات الافريقية، على عدم ممانعة هذا الدخول القوي للصين في مجتمعاتها، وذلك محاولتها السيطرة على جزء كبير من التجارة في آسيا، عبر مشروع طريق الحرير الجديد، وتقوم الولايات المتحدة حاليا، بعملية متاخرة، وقائمة على ردة الفعل، لإستعادة حصص شركاتها في الاسواق الأفريقية.
الطريقة الثانية، واختراق اسواق الخصوم من الداخل، ومحاولة السيطرة على اجزاء، من قطاعات اساسية فيها واعني بذلك، من جهة امتلاك حصص، في شركات غربية، ناجحة داخل دولها وعالميا، ومن جهة اخرى اغراق تلك الدول بالمنتجات، التي يصعب على الاقتصادات الغربية منافستها في الاسعار، بسبب اختلاف تكلفة اليد العاملة واقتصاديات الحجم الكبير جدا، وهذا امر اصبحت الدول الأوروبية تقدم احتجاجات رسمية ضده، وتحاول سن تشريعات تحد من الإغراق الصيني المتعمد – جريدة الإقتصادية 12 مايو 2019- ويتحقق لها بذلك عدة امور.
ولا يمكن اعتبار ما تقوم به الصين، مجرد عملية تجارية أو اقتصادية، عادية، تقوم على فتح وتوسيع اسواق منتجاتها، أو على قانوني العرض والطلب، ففي دولة شمولية مثل الصين، ذات تخطيط مركزي، وحزب واحد، لا يمكن أن توجد شركات دولية عملاقة، دون أن تكون لاعمالها علاقة، مباشرة أو غير مباشرة، بالإستراتيجية العامة للدولة، ولا بالتوسع الامبراطوري الذى تنفذه الصين، بتخطيط استراتيجي هادئ وثابت.
لمن يتابع هذا الشأن، بالتأكيد لفته حجم الاعتراضات، التي تتزايد في دول مثل ألمانيا –جريدة الإقتصادية 20 ديسمبر 2018- على محاولات شركات صينية، امتلاك حصص متزايدة في شركات تصنيع السيارات الألمانية – وهو مجال تفخر به ألمانيا- ومن تلك المخاوف، أن يكون امتلاك تلك الحصص، طريق مهم للحصول على تكنولوجيا واسرار صناعية حالية ومستقبلية ونقلها للصين اختصارا للزمن.
وفي امريكا، كان احد شعارات حملة ترامب مواجهة النفوذ الصيني، ومحاولته الهيمنة على السوق الامريكي من الداخل، عبر الاغراق بمنتجات رخيصة نسبيا، وتأثير ذلك على ارباح الشركات الامريكية، وبالتالي على الضرائب الحكومية وعلى معدل البطالة، وكذلك على اخراج الشركات الامريكية، من العديد من اسواق العالم، وهذه القضية اصبحت مهمة جدا للناخب الأمريكي، خاصة في المدن الصناعية، وكذلك ادراك المؤسسة الحاكمة في امريكا، وليس شخص الرئيس فقط – ايا كان الرئيس- أن توسع الصين في العالم، سيكون على حساب امريكا، قبل أي دولة اخرى.
كانت للولايات المتحدة الامريكية، تجربة قريبة مع اليابان، وحاولت الوصول لحلول وسط معها، بعد ادراكها انها غير قادرة، على منافستها تكنولوجيا، لذا كان من الحلول التي توصل لها الطرفين، أن تقوم الشركات اليابانية الكبرى، التي تقوم بتصدير نسبة كبيرة من انتاجها للسوق الأمريكي، بإفتتاح مصانع داخل امريكا، كشركات تويوتا وهوندا لصناعة السيارات، وكذلك منح الشركات الأمريكية التي كانت تحتفظ ببعض اعمالها وارباحها خارج امريكا، بسبب الضرائب العالية، تخفيضات ضريبية، تجعلها تعيد جزء كبير من ارباحها للبنوك الامريكية.
لكن الصين ليست اليابان، فالأخيرة خاضعة للنفوذ السياسي الأمريكي، منذ الحرب العالمية الثانية، وتربطها بها إتفاقات ملزمة، كذلك لا تمتلك اليابان مشروع للتوسع والهيمنة سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي.
السؤال هو: هل مازالت الولايات المتحدة قادرة على التفلت من هذا التمدد، والخروج منه، عبر اعادة هيكلية ذاتها واقتصادها، والعودة للريادة في المجال العلمي والتقني، للمحافظة على الهيمنة الاقتصادية والسياسية.، أم ستبقى في حالة ردات الفعل الدفاعية، التي تؤخر تبدل الأدوار على المستوى الدولي فقط.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال