الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لو كنتَ في أمريكا، لَحَكَم لك القضاء بتعويضات بالملايين” ..
تتردّد هذه الجملة كثيراً في الأحاديث والنقاشات العامة حول التعويض عن الأضرار الواقعة على الأفرد، سيما إذا كان مصدر الضر رهو الشركات ، وكان الضرر جسيماً أو معنوياً.
الصحف الورقية كانت تروي لنا في صفحاتها الأخيرة روايات قضايا تم التعويض فيها بملايين الدولارات، و لا زالت في نسخها الإلكترونية، ترسخ الفكرة بسرد المزيد من القصص والروايات، وكذلك تفعل بعض قنوات الإعلام الحديث. فهل حقاً كانت هذه الروايات صحيحة، أم حكايا تملأ بها الصحف بياضها و تسلّي قرّاءها !
قبل سنوات عدة، زميل مبتعث، تم إنزاله وعائلته من الطائرة بلا سبب، سوى العنصرية التي ربما كانت حاضرة بشكل ظاهر لدى بعض أفراد وموظفي خطوط الطيران هذه – حيث تكررت الحادثة مع مسلمين آخرين-، وبعد ان وكّل محام في القضية، تمت التسوية ب 40 ألف دولار – أظن نصفها كان للمحامي-. إذن أين تعويضات الملايين، وقد تم إهانته وإنزاله أمام الناس وإخافة عائلته وكأنهم يتهمونهم بالإرهاب بناء على مظهرهم فقط. كيف لا يظفر منهم بتعويضات عالية، رغم حساسية التهمة وخطورتها في أمريكا. هل هي عنصرية حتى في القضاء! أم أن هناك معادلة خاصة لتعويضات الملايين، لم تعرف متغيراتها و أطرافها !
– في قضية في فلوريدا، تم تعويض مريض ب (116.7) مليون دولار [ 437 مليون ريال ] عندما أخطأ مساعد طبيب -غير مرخص- في تشخيص جلطة دماغية، واعتبرها أعراض التهاب جيوب أنفية.
– وفي كاليفورنيا، تم الحكم على شركة فورد بتعويض أسرة بمبلغ (290) مليون دولار [ مليار و 87 مليون ريال ] عندما أصيب بعض أفرادها و توفي بعضهم، بسبب تزايد سرعة السيارة وخروجها عن السيطرة لخلل و عيب في التصنيع.
-وفي نيوجيرسي، تم تعويض مريض ب (11.5) مليون دولار [ 43 مليون ريال ]، أصيب بجلطة في القلب، نتيجة تناول دواء لم يكن مطابق للمواصفات الفيدرالية في اشتراطات الإفصاح عن التاثيرات الجانبية المحتملة.
-وفي غرب فيرجينيا، وبعد تقييد آلاف الدعاوى ضد شركة Du Pont بسبب تلويثها النهر بنفايات كيميائية سببت أضراراً صحية مختلفة لساكني هذه البلدة ، تمت التسوية بين الشركة والمتضررين من سكان القرية على مبلغ 671 مليون دولار (تم توثيق القضية بفيلم وثائقي) وفي قضية مشابهة ضد شركة كهرباء تم تعويض المتضررين من سكان البلدة بـ 333 مليون دولار (Erin Brockovich)
فإذا كان البعض يحصل على 40 ألف فقط و ربما أقل ، و آخرون يحكم لهم بمئات الملايين من الدولارات، فهل ممكن أن يكون هذا التفاوت منطقياً ومرتكزاً على أسباب مفهومة ومقاييس قابلة للضبط؟ أم ربما أنهم يحتاجون للتقنين حتى لا يحصل هذا التفاوت بين الأحكام القضائية !
*المعايير التي يمكن اعتبارها في التعويض:
أحكام التعويض واشتراطاته لها تفرعات وتفاصيل كثيرة ، تبحث بشكل أساسي في قوانين المسئولية التقصيرية (Tort Law) ، ويمكن إجمال ما له ارتباط بموضوع المقال فيما يلي:
1- الأضرار المالية أو الاقتصادية. وهذه تشمل التعويض عن الأضرار المادية ، وتكاليف العلاج و الرعاية الصحية، بكل ما تشمله من علاج ورعاية حالية ومستقبلية متوقعة ببناء على التقارير الصحية، ويندرج هنا أيضاً فقدان الوظيفة أو مصدر الدخل أو أي نقص في الدخل المادي بسبب الإصابة أو الإعاقة سواء كانت دائمة أو مؤقتة، بل يمكن أن يعتبر في ذلك الحرمان من الترقي الوظيفي في المستقبل و زيادة خبرات الموظف وبالتالي زيادة الدخل، وكذلك تكاليف المحاماة.
2- الأضرار غير المالية (المعنوية و الألم النفسية). و نظر المحكمة أو هيئة المحلفين هنا يشمل كافة الأضرار غير المالية – بشروط أركان المسئولية المعتبرة (خطأ و ضرر و علاقة) – .. ويدخل في هذا الألم النفسي والمعاناة و تغير أسلوب الحياة والمصاعب النفسية التي لم تكن موجودة قبل وقوع الضرر.. وإن كان هذا النوع أصعب الأنواع في تقدير التعويض إلا أنه أحياناً يفوق تعويضات الأضرار المالية المباشرة كتلفة العلاج أو فقدان الوظيفة.
وغالباً لا يمكن التنبؤ بحكم القاضي أو هيئة المحلفين فيما يخص التعويض عن الضرر النفسي، فالاعتبارات و صور الضرر متعددة، وتقدير درجة الضرر في كل منها، هو ما يجعل التنبؤ بقيمة التعويض صعباً.
فمن صور الألم النفسي المعتبرة، فقدان السعادة والمتعة بالحياة، التوتر والقلق والاجهاد الذهني، فقدان الشريك (زوج/زوجة) أو القريب -في حالة الوفاة- أو فقدان الحياة الطبيعية معه في حالة الإعاقة أو الضرر الذي يكلّف على عائلة المتضرر، وكذلك أي ألم أو معاناة نفسية يمكن اقناع المحكمة بها.
3- التعويض الجزائي الرادع Punitive Damages
ما مضى من تعويضات عن الضرر المالي والمعنوي النفسي، أمر متداول ومعلوم حتى عند غير المتخصصين، وقد يكون التوقف أوالجدل يتجه إلى المعنوي النفسي، و تتجدد الدعوة لاعتباره لدينا أسوة بالأنظمة القضائية في بلدان أخرى في أوروبا و أمريكا، لكن الأمر الذي قد يكون جديداً على بعض القراء الكرام، هو أن جميع تفاصيل وصور التعويضات عن الضرر المالي والنفسي المذكورة آنفاً، لا تشكل في العادة إلا نسبة ضئيلة – تصل في حالات إلى 5% أو أقل – من حجم التعويض الذي يصل لعشرات ومئات الملايين.
إذن ما هو التعويض الذي يشكل أحياناً 95% من قيمة هذه التعويضات المليونية؟ و ما هي فلسفته ؟ وكيف يستحقه المدعي المتضرر وقد تم اعتبار جميع الأضرار المالية والمعنوية التي لحقته بل والتي ربما تلحقه في المستقبل؟
كما هو ظاهر في العنوان أعلاه، يسمى هذا النوع من التعويض
بـ (التعويض الجزائي الرادع / Punitive Damages )
وفكرة هذا التعويض هو ردع ومعاقبة المدعى عليه المتسبب في الضرر، سواء بالفعل المتعمد أو بالإهمال الجسيم أو الاحتيال الذي أدى لتضرر المدعي. إذن ليس تعويضاً ولا جبراً لضرر المدعي، بل ردعاً لمرتكب الفعل الضارّ، ولغيره ممن يمكن أن يقع منهم هذا الفعل أو الإهمال، لاسيما إذا كان الأمر متعلقاً بمنتج مصنعي كالسيارات و الآلات، وكذا الأخطاء الطبية. فالتعويض المعتاد عن أضرار الفرد المالية والنفسية قد لا تكون كافية لردع الشركة عن الاستمرار في إيقاع الضررعلى عميل آخر، طالما أن التعويض لا يشكل إلا جزءً يسيراً من المكاسب المالية التي تحققها الشركة. و تعود فكرة هذا التعويض في قضاء دول القانون العام Common Law
إلى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، حيث يتم الإشارة في بعض الأحكام المحكمة العليا في أمريكا بريطانيا وأستراليا وغيرها إلى أقدم قضيتين في هذا الشأن وهما قضية Wilkes v. Wood و قضية Huckle v. Money
في العام 1763 … لكنه تطور بشكل كبير في النصف الثاني من القرن العشرين سيما في أمريكا.
و مؤخراً، ظهر اتجاه لدى حكومات الولايات ومحاكمها وكذلك المحكمة العليا الأمريكية، لمحاولة وضع سقف أعلى لهذا النوع من التعويضات وتحديد اشتراطات ومعايير واضحة لتطبيق هذا التعويض وإعماله. فتم تحديد سقف أعلى في بعض الولايات وفي بعض أنواع المطالبات خصوصاً التعويضات عن الأخطاء الطبية والإصابات الشخصية وضع معيار النسبة والتناسب بين التعويض الجزائي الرادع وبين بقية التعويضات، وذلك لتحديد سقف أعلى – مع اعتبار السماح بوجود الاستثناءات-.
وفي المقابل فإن أنظمة قضائية أخرى مثل النظام الفرنسي بدأت تهتم بمثل هذا النوع من التعويض، فقد تم تقديم مقترح تعديل قانون يسمح بإدراج هذا النوع من التعويضات، وسيتم دراسته والنظر فيه في فصل الخريف القادم.
** في الجزء الثاني من المقال، سيكون الحديث عن السقف الأعلى للتعويض في بعض الولايات وبعض القضايا، واحصائيات في قضايا التعويض ، و الجزء أو النسبة التي يتم اقتطاعها من التعويض ولصالح من هذا الاقتطاع ، وإيجاز وقائع قضيتين من أشهر القضايا التي جذبت الكثير من الاهتمام والجدل .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال