الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
دائماً ما تسعى الشركات الكبرى إلى تبني ثقافة الابتكار في قائمة استراتيجياتها من أجل تقوية نموها وتعزيز مكانتها في السوق والمحافظة على رضى زبائنها وتقدم مبيعاتها، فنجد على سبيل المثال شركتا سامسونغ الكورية وقوقل الأمريكية من أكبر الشركات في العالم إنفاقاً على الأبحاث والتطوير لمنتجاتها وبيئة العمل لديها؛ الأمر الذي جعل مجال الابتكار ثقافة راسخة ومتجذرة عندهم، ولاشك في أن الزيادات الغير معقولة في أسعار المواد الخام وارتفاع هوامش الأرباح والرغبة في تقليل الهدر هي أمور تدعونا جميعاً الى البحث عن ابتكارات مؤثرة، من الأمثلة الرائدة في ذلك نظام الإنتاج في شركة تويوتا -والذي أتمنى تدريس نموذجه في الجامعات وخلال الدورات التدريبية ولعلي أتطرق إليه بإسهاب لاحقاً-، ولكننا غالبا ما نسمع فقط كلاماً رناناً وفلسفة جافة عن الابتكار في برامج وتوصيات ركيكة لا تسمن ولا تغني من جوع، فضلاً عن أن بعض الشركات لا تنفذ تلك البرامج؛ في محاولةٍ منها لتخفيض التكاليف، وكثيراً ما تعلن الشركات عن رغبتها بالمزيد من الابتكار والأفكار الجديدة لكنهم في المقابل لا يلقون بالاً لأي فكرة جديدة تعرض عليهم، ولقد وجدنا شركة نوكيا كمثال ناصع على الشركات التي لم تكترث بالتجديد والابتكار في عالم رأسمالي صلف؛ الأمر الذي أدى إلى أن تخسر مكانتها في السوق، لم يكن الابتكار أبداً “تقليعة” تظهر فترة ثم تختفي كلياً؛ لكنه دائم التغير والتجدد، فتارةً يصوَّر على أنه “موضةُ” منتشرة وتارة يصبح “موضة” قديمة، لذلك تبرز أسئلة ملحة تبتغي إجابات عاجلة: كيف ينجح الابتكار؟ وماهي أفضل الدروس والممارسات في مجال الابتكار حتى نعمل سوياً لترجمتها الى واقع ملموس لخلق فرص تجارية جديدة؟
هناك الكثير من الأخطاء المنهجية التي دائما ما تتكرر وتعيق وصول الابتكار إلى مرحلة النضج والنفع، فمثلاً تستثني الكثير من الشركات دراسة أي فكرة غير خارقة أو لا تضمن لها عوائد سريعة -رغم أن المعدل الوسطي للانتقال من الفكرة الى السوق يستغرق حدود سنتين-، بسبب صعوبة تحقيق التوازن بين حماية مصادر الإيرادات الحالية؛ وفي نفس الوقت تسعى لإيجاد مصادر إيرادات جديدة، لذا أرى لزاماً أنه من أجل أن نتقدم فيجب أن نكون مستعدين للمغامرة حتى لو فشلنا؛ لأن نجاح كثير من الشركات الابتكارية يكمن في أنها تتسامح في وقوع الفشل، في الحقيقة إنه من الخطأ ذي التبعات الكبيرة التوجه الى تقييد الابتكار بأنظمة ومنهجية صارمة تقتل روح المبادرة، لاسيما إذا كان مرتبطاً ببرامج مراجعات الأداء والمقاييس المرتبطة بها والتي تعتبر غير صحية اطلاقاً في مجال الابتكارات وتقتل روح أي جهد يسعى نحو تحقيق الابتكار، فالشركات عادة لا تريد فقط وضع الخطط بل ترغب من الموظفين الالتزام بها بل سيكون تقييمهم السنوي بناءً على ما التزموا بتنفيذه من الخطط، مما قد يؤدي ذلك بالأخير الى ضعف الحماسة عند الموظفين وإبعاد الابتكار، وهنا خطأ آخر لا يقل خطورة وهو تركيز الشركة المفرط على تطوير المنتجات فقط رغم أن هناك الكثير من الأفكار القادرة على إحداث تحولاتٍ هائلةٍ والتي قد تطرح من أقسام أخرى داخل الشركة مثل التسويق أو الإنتاج أو المالية …، كذلك من الأخطاء الشائعة وضع أحسن الفنيين في المناصب القيادية –أي في “وجه المدفع”- بدلاً من أن يضعوا فيها أقوى القادة المتمكنين، كما أنه لا يمكن للمبتكرين العمل بعزلة عن الأخرين إذا كانوا يريدون اهتماما لأفكارهم، ولذلك فمن المهم الحرص على تعزيز مهارات القيادة والتعاون والتواصل الشخصي وتوثيق الروابط والعلاقات الانسانية مع كافة أعضاء الفريق- سواء بين المبتكرين والموظفين الاخرين في الأقسام الأخرى بالشركة-، لكي تزدهر الابتكارات، و حتى يشعر الجميع بأنهم جزء من فريق واحد يهدف وراء البحث عن الأفكار الجديدة.
نحتاج إلى ترسيخ مفاهيم جديدة في الابتكار؛ منها التشجيع على إسناد عمليات الأبحاث والتطوير الى جهات خارجية مختصة -مثل جامعات أو مراكز بحثية تزودها بالأفكار والمنتجات الابتكارية- والاستفادة من تجارب رواد الأعمال وإلى الدخول في شراكات للتطوير… إلخ، شخصياً أشجع النموذج القائم على إنشاء وحدة منفصلة تتمتع باستقلال تام عن الأقسام الأخرى في الشركة ومستقلة عن أي أعمال رئيسية- كأي شركة مستقلةٍ ذاتيا- مع بقاء خدمة قاعدتها المندمجة في تلك الأعمال، يجب أيضاً على تلك الشركات أن تبدي مزيدا من “المرونة” في خططها وأنظمتها؛ يشمل ذلك العمل على إزالة العوائق البيروقراطية والأنظمة المتشددة على المبتكرين حتى يستطيعوا طرح وتطوير أفكارهم بكل سهولة، لابد أن يكون مجال الابتكار مفتوحا أمام جميع الموظفين من أجل طرح ابتكارات تقدم قيمة إضافية للمنتج، فمثلا: يجب التشجيع على إقامة ملتقيات مفتوحة أمام الجميع لطرح الأفكار الابتكارية في كافة المجالات، يجب على الشركات ان تقدم استراتيجية شاملة للابتكار مع التوسع في مجال البحث على تحديات المستقبل وتقديم الاستثمارات اللازمة ورفع طرق التمويل -مثلا: اقترح الاحتفاظ بأموال احتياطية مخصصة فقط للفرص غير المتوقعة/ الخطرة-.
إن تعديل الثقافة التنظيمية لتبني الابتكار يمكن أن يكون تحدياً عظيماً ويحتاج بلا شك إلى وقت وجهد وتفرغ، فالارتقاء بأداء قادة الأعمال التجارية نحو البدء في غرس ثقافة التغيير والابتكار هو الطريقة المثلى نحو التقدم والنجاح، ويشمل ذلك الاستثمار في التعلم المستمر عبر المؤسسة، وإشراك الموظفين بشكل كامل في التقييم الاستراتيجي للشركة وقرارات الاستثمار وخلق المشاريع الفعالة مع القضاء على ثقافة الانكفاء والخوف من الفشل، وفي حين أن الثقافة التي تشجع على قبول الفشل والاستعداد للتجريب هي أمر ضروري للغاية لنجاح الابتكار؛ فمن الضروري أيضا أن تكون المسؤولية والصراحة والقيادة موجودة أيضا، وعلى هذا النحو، من المهم أيضا إبراز وجود صلة بين الابتكار وإدارة المخاطر، الإدارة الفعالة للابتكار تعني القدرة على موافقة الفرص مع الاستراتيجية بشكل صحيح مع تقييم الفوائد المحتملة والانحرافات المحتملة لكل فكرة جديدة تتبلور في المؤسسة، وعندما تتحول ثقافة المنظمة إلى ثقافة منفتحة تتبنى الابتكار والتجديد… فسوف تظهر أيضاً مجموعة كبيرة من الأفكار، إن عدم القيام بذلك يمكن أن يعرض المنظمة للخطر، ولكن مع تغير المشهد التنافسي في كثير من الأحيان، هناك حاجة أيضا إلى ضمان أن تظل المنظمة مركزة في نظرها على الأفكار التي توفر توازنا بين الفرص والرغبة المناسبة في المخاطرة، فلا شك بأن تحقيق التوازن الصحيح بين الحصول على أعلى عوائد من النشاطات الحالية وما بين البحث عما هو جديد يحتاج الى مرونة مؤسسية، وفي الختام أؤكد أن الابتكار مجال رحب ويمس موضوعات شتى في حياتنا؛ ولعلي أتناوله في مواضع أخرى لاحقاً.
————-
balmangour@gmail.com
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال