الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
المتتبع للسلسلة الزمنية لتاريخ الفكر الاقتصادي وعلاقته بمفاهيم الأيديولوجيا عبر العصر الحديث يجد اولاً أن هذا الفكر قد تقاسم وربط معظم أفكاره بالعلوم الإجتماعية والإنسانية الممكن الانزواء تحت مظلتها فحسب ، ووفقاً لكتاب مبادئ الاقتصاد” للعالم الشهير ألفريد مارشال والذي كان قبلها علم الاقتصاد يُدرس كجزء من بكالوريوس الفلسفة والأخلاق أو تحت عنوان واسع يسمى ( الاقتصاد السياسي ) برز الى حد ما الجمع بين الاقتصاد والسياسة بالأيديولوجيا أي من خلال منظومة الفكر السياسي فقط بيد أن مارشال بحصوله على اول شهادة جامعية مستقلة حوّل علم الاقتصاد الى تأصيل مبادئ دراسة هذا الفرع الى أسس علمية مستقلة ، وحاول الابتعاد عن لغة العلوم الاجتماعية والسياسة الَّتي تركز على إبراز الصراع الاجتماعي بين قوى الإنتاج.
ولقد تمكن مارشال من تحويل وجهة الاقتصاد من التوصيف النظري إلى القياس الكَمّي واستخدام المعادلات الرياضية والرسومات البيانية ثم دعا إلى التعامل مع الاقتصاد كعِلم منفصل عن العلوم الاجتماعية، وحينئذ تسارعت مراحل التطور الأيديولوجي كانت الأيديولوجيا هي المحرك الاول للثقافة عموماً، في حين أن بعض المفكرين لاحقاً يُشير الى محدودية الايديولوجيا تجاه الأنظمة الاقتصادية باستثناء نمذجة الشخوص للاقتداء بها كبطل فكري وموجّهاً للنتائج التي قد تفسرها النظرية الاقتصادية كما هو الحال في المدرسة الاقتصادية الليبرالية وغيرها وهو ما يؤشر الى ان هذه التطورات السياسية المتلاحقة ربما انها قد مهدت الطريق لخلق ايديولوجيات وفلسفات اقتصادية جديدة فأضحت رموز ممثليها وروادها محل تباينات في قبولها وتمجيدها او رفضها وفي المقابل يرى الكثير من المفكرين بأن الاقتصاد لم يكن محسوبا على اي تصنيفات أيديولوجية لكن يبدو ان هذا المنحى تشكل لاحقاً بصورة متباينة الاتجاهات سواء كانت هناك علاقة مباشرة أو غير مباشرة بزعم توظيفه أيديولوجياً لكن أيضا هذا لم يتم تأكيده عمليا او تجريبيا ، اليوم نحن امام عدة اتجاهات متباينة بين النفي والايجاب :
الاول : الاتجاه العام للأحزاب السياسية المختلفة في الغرب والولايات المتحدة والتي تبنت مدارس فكرية اقتصادية أيّاً كانت تصنيفاتها او حتى تلك التي تصنف على انها نموذج الاقتصاد الليبرالي والنيو ليبرالي ( الليبرالية الاقتصادية الحرة أو رأسمالية السوق الحرة ) Neoliberalism فاصبح بالتالي الملف الاقتصادي الخط الأبرز لأجنداتهم اي ان القرار الاقتصادي مدعوما بتوجه الفكر السياسي من خلال هذا النموذج وهو مؤشر يعزز من الإثبات كيفما يراه البعض .
الثاني: هناك بعضُ ممن يجزم بأن الأيديولوجيا الاقتصادية تتشابك مع النظرية الاقتصادية في مسألة التحليل الاقتصادي ( نظرياً ) فكانت معظم النتائج متحيزة وهناك من ربط فكر المدرسة الكلاسيكية ولاحقاً النيو كلاسيكية بأيديولوجيا المكون لها سياسياً قبل أن يكون اقتصاديا أي ان الرأسمالية السياسية قبل الاقتصادية (كما اسلفت) ، وبالرغم من هذه الآراء الا ان الحقيقة الاقتصادية قد جنبت ذلك عِندئذْ يتم الاعتماد في التحليل الاقتصادي على النتائج الرقمية والبيانات والكميات والتي لاشك بأنها تُخرج الاقتصاد الموضوعي من دائرة الأيديولوجيا في وجهة نظر التحليل على الأقل، ومن هذا المنطلق فإن الغالبية الأكبر تحديداً يميلون الى تجنيبه معضلة أي تداخل وأن نظريته تعمل في حياد تام ونقي دون أي تأثيرات .
الثالث: يميل بعض المفكرين الى ان أنماط التدخل الأيديولوجي بات ماثلاً امام الخط العام لمدرسة المياه العذبة او مدرسة شيكاغو للاقتصاد Chicago school of economics والتي توصف في المجتمع الاكاديمي للاقتصاديين بأنها المدرسة الفكرية للاقتصاد الكلاسيكي الحديث حيث تدعو الى تطبيق الجدل المنطقي للاقتصاد بالسياسة ويدافعون عن ركائزها بشغف ومما مهد لهم الطريق اكثر القيادة النخبوية لهذه المدارس ودعمها في المؤسسات المالية والجامعات والمؤتمرات ووسائل الاعلام بمختلف أنواعها الى جانب تماسكها وانسجامها مع بعضها البعض ومن محاورها المهمة نظرية النقد الحديثة MMT، وبالرغم من ذلك تشكو هذه المدرسة من عدم استقرارها التام وصعوبة تحديد ممارساتها بشكل مطلق ونضوب في أدوات المعالجة الاقتصادية للقضايا المالية النقدية التي توجه من خلال الدفة السياسية بل ان هناك من يرى انها تحديث وامتداد لنظام اقتصادي قائم ولم تخلق هذه المدرسة بحد ذاتها نظرية جديدة وهذا الطرح خلق مفارقات بين القناعة بها ورفضها واما مبررات الرفض فإنها تأتي من واقع حيادي لميكنة السياسات النقدية وحريتها وفق نظام دقيق يجب ان لا يتأثر بالسياسات العامة.
الرابع : ان العالم اليوم يتشكل على اساس اقتصادي وليس سياسي قوة الاقتصاد هي الحصان الذي يقود العربة نحو اي اتجاه يريد فالنظرية الاقتصادية في مجملها ثابتة لم ولن تُستبدل ، ما تتغير ويتطور هو الأدوات والأساليب وعملها الدقيق الذي يقدم محتوى مُقنن ، وهو ما جعل الكثير من المهتمين يؤمنون بأن النظرية الاقتصادية محايدة ولا تحتمل اي ايديولوجيا على الإطلاق ولكن عند توظيفها في الممارسات التطبيقية سواء كان ذلك في النصوص او المقالات او حتى السياسة الاقتصادية قد تتقمص بشكل او بآخر مثالب من البعد الأيديولوجي والتي بطبيعة الحال سيعتريها ذلك القصور في جوانب اخرى تتعلق بالأنظمة واللوائح والتشريعات والاجراءات القانونية وصولا الى دقة نتائج التنفيذ فيما بعد مما يتطلب معه بناء المنهجية الاقتصادية ضمن مكونات الالتزام بالموضوعية والوعي بالقيم السلوكية والاخلاقية التي تخدم البحوث الاقتصادية بكل مصداقية وشفافية وفتح مكونات عناصر الإنتاج لتعمل باستقلالية تامة وبأعلى كفاءة ممكنة.
مجمل القول : علم الاقتصاد يتداخل مع الكثير من العلوم الاجتماعية والطبيعية واغلب مفكريه الكبار ربطه بالعمق الفلسفي حتى بات ظاهرا في أدبياته بيد انه لا يمكن نفي او إثبات أدلجة الاقتصاد بمفهومها الواسع نظرا لصعوبة قياس التحيز الأيديولوجي في لغة الأرقام هناك تباين في الآراء الفكرية حول ذلك لكن من الأهمية بمكان ان ننظر اليوم لهذا الواقع الاقتصادي من زاوية أخرى تتفوق على مفاهيم الأدلجة وهو القيم الأخلاقية المرتبطة بالعلم والنشاط الاقتصادي والتي لا تنفك بأي منهما عن الآخر كما ان الانفتاح والتنوع الاقتصادي وتوظيف مكونات الاقتصاد الكلي التوظيف الحديث والأمثل هو المرحلة التي ستقود الدول الى مواقع الريادة بمفاهيم استراتيجية عميقة وكلما كان الاقتصاد قويّاً كلما انفتحت امام السلطة السياسية العديد من الخيارات والمصالح التي تخدم أوطانها، عصر عولمة الشركات والأسواق وترابط البيانات وصناعة الاقتصاد بمفاهيم واساليب جديدة هو بحد ذاته العملاق الاقتصادي القادم بآفاقه الواعدة .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال