الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يوافق يوم الخميس القادم 31 أكتوبر اليوم العالمي للإدخار ولعلي ابدأ مقالي هذا بقصة من التراث : اختصم رجلان إلى جحا حيث ادعى أحدهما – وكان رجلا بخيلا- على صاحبه أنه أكل خبزه على رائحة شوائه.. وطالب الرجل بثمن الشواء الذي لم يأكله ، فسأل جحا البخيل : وكم ثمن الشواء الذي تريده من الرجل؟ فأجابه البخيل : ربع دينار، ثم طلب جحا من الرجل دينارا.. ورنه على الأرض ثم أعاده إلى صاحبه قائلا للبخيل : إن رنين المال ثمن كاف لرائحة الشواء.
لقد زخَرت كتب التراث بالمؤلفات والشخصيات التي تتحدث عن البخل ومن اشهرها كتاب البُخلاء وهو كتاب دون فيه أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ .. العديد من القصص والشخصيات التي تقمصت بين دفاته صفات البخل ومواقف البخلاء .. في كل الأحوال هناك لبس شعبي كبير بين مفهومي الإدخار والبخل والحقيقة أن لكل منهما مسارات اقتصادية تختلف وتتقاطع كثيرا ، ذلك أن الإدخار هو إدارة الأموال وتوظيفها التوظيف المناسب وإيداعها في أوعية تحقق عوائد مجزية بل انها مرحلة سابقة ومهمة للإستثمار المستقبلي أما البخل فهو اكتناز يصيب الحياة الاقتصادية بالشلل بإضعاف القوة الشرائية ، بيد أن الجانب الأكثر إشراقًا في حياتنا الاقتصادية أنه مهما كنت مستهلكًا او منتجًا يبق الإدخار ذلك الحصن المنيع الذي سيقيك من الصدمات امام متطلبات الحياة بمنحك مساحة حرة للبدأ في أي مشروع سيوفر لك لاحقا دخلا إضافيا ولعلنا نتذكر جيدا في المقابل المقولة الأكثر شهرة (احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود ) .
الإشكالية التي تفسر الإدخار بأنه بخل معضلة وهذا يعزو إلى ان مفاهيم ثقافة الإدخار في مجتمعنا لاتزال ضعيفة فلم اجد خلال مراحل دراستي اي منهج أعطى هذا المفهوم حقه الكامل من المعلومات الكافية لكني خرجت آنذاك بأن مراجعنا الثقافية خلقت شخوصا ونجوميات تراثية وعصرية ربطت بين الإدخار والبخل بدءاً بجحا والاصمعي واشعب وغيرهم وانتهاءً بالطرائف القديمة والحديثة وفي اعتقادي إلى حد ما بأن هذه الثقافة ربما انها شكلت حالات من التحدي أمامنا بأهمية تجنب حالاتهم الموسومة بالبخل او تفسير الإدخار أنه كذلك إلى الإنفاق الغير مبرر.
لقد سمعنا كثيرا عن مقولة ( انفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب ) وهذا بعد آخر يضاف إلى سلبيات ثقافتنا الإدخارية منحتنا الدافعية إلى حد ما وهذه مقبولة من وجهة نظر الاقتصاد حالما يكون هناك فرص كثيرة واسعة أمام المستهلك وفي حال ما تكون المقولة السابقة اشبه بمقولة هارون الرشيد امطري حيث شئت فسيأتيني خراجك هذا اذا ما افترضنا ان هناك مجالا واسعا امامك لتنوع دخلك ونموه المتزايد سواء كانت تلك القنوات بدخل ثابت او متغير ، ولذلك دائما ما توسم النظرية الاقتصادية بالعقلانية الاقتصادية كأحد اهم المكونات التي نشأ معها علم الاقتصاد وتحديدا في النظرية الكلاسيكية بأبعادها السلوكية ضمن منظومة الفكر الاقتصادي والتي تتضافر معها أيضا العديد من المتغيرات التي تحقق معها في النهاية الرغبة او الحاجة للاستهلاك .
لقد دعا العالم الاقتصادي المعروف جون مينارد كينز في احد كتبه إلى الإدخار الاجباري لتحقيق نوع من الاستثمار الاجباري وكانت خطته قي غاية البساطة آنذاك وهي اقتطاع جزء من الأجر واستثماره خلال فترة زمنية معينة بيد ان هذه الخطة اليوم قد يعتريها القصور اليوم لاختلاف الظروف والمكونات المعيشية وأيضا مكونات التنوع في القاعدة الاستثمارية ولكن النظرة العامة لهذه الفكرة ستكون ذات فائدة واسعة اذا تمت فقط من قبل المستهلك ضمن مشروعه الإدخاري المتكامل الأطراف .
حسنا .. هل تعتقدون ان معظم أفراد المجتمع يعلمون عن الإدخار.. كيفيته ، انواعه ، وقنواته ؟ شخصياً لا اعتقد لأنه ببساطة ليس من اهتمامات البنوك التجارية ولأنها لا تحقق لها مكاسب ربحية كما هو الحال في الحسابات الجارية ولأنها تهدف إلى تعظيم المدينين لها بالقروض الاستهلاكية وبطاقات الائتمان ولأنها تعلم ان راتبك الشهري ثابت لديها كضمان فبه ستنخفض اي مخاطر ! ثم أنها مع هذا بعيدة كل البعد عن دورها في المسؤولية الاجتماعية ولأنه ايضا لا توجد مؤسسات ادخارية تهتم بمكونات الإدخار للأفراد والشركات وتؤسس لعمل ادخاري ، إذاً ما هي الحلول ؟
اولاً .. فلنبدأ من المستهلك هذا المستهلك الذي يُعرف بالرشيد والذي عليه التفكير ألف مرة قبل الشراء ، هل يحتاج هذه السلعة وما درجة الحاجة وهل هي ضرورية وهل سعرها مناسب وهل لها سلع بديلة بذات الجودة وبسعر اقل اي ان التخطيط المالي مطلبا مهما ، احياناً الشراء بدخل قادم ليس في اليد حالياً عبء وخسارة مسبقة الدفع فلا تنفق اكثر من دخلك الشهري ، اجل الشراء ، قلص حاجاتك ، استثمر في الأشياء المعطلة عن الاستهلاك الحالي ، اخلق مساحة أسرية واسعة من التفاهم الناجح حول الانفاق وبما يضمن الحاجات الضرورية كالسكن والغذاء والخدمات والنقل والرغبات المهمة كالهواتف والاجهزة الالكترونية ثم توجيه المتبقي نحو الإدخار
ثانيا .. تعظيم ثقافة الإدخار ولعلنا نعود في ذلك إلى ما أكدته رؤية المملكة 2030 والتي تنص على رفع نسبة الإدخار لدى الأسر السعودية إلى نسبة 10 في المائة وحتى ننطلق بتحقيق هذه المستهدفات هناك اتجاهين مهمين الأول خلق اوعية ادخارية فعالة في البنوك التجارية والثاني رفع ثقافة الإدخار عن طريق المناهج التعليمية ووسائل الاعلام والبنوك والمدارس والاسرة .
مجمل القول : الإدخار ممكن جدا لأنه ببساطة عندما يتم استقطاع مبلغا من دخلك من اجل قرض استهلاكي استفدت منه خلال فترة قصيرة فأنت اليوم امام تطبيق هذه الممارسة بطريقة أخرى وهي ان تستقطع ما ستدفعه قسطا شهريا للقرض في شكل وعاء ادخاري اجباري يتم بوعيك أنت فقط لتجني ثماره لاحقا ، الجميع مطالب بتضافر الجهود والعمل على توسيع نطاق ومفاهيم الإدخار وبناء مكونات التخطيط المالي للأسر مطلبا مهما نحو الرشد الاقتصادي المتوازن والذي بدوره سيسهم في استقرار الأسر ونمو مداخيلها وفق الأولويات والقطاعات المالية ، اليوم يعول عليها كثيرا في بناء منظومة ادخارية مرنة وصولا إلى مستهدفات رؤية المملكة 2030 ولن يتحقق ذلك الا بالتكامل العملي واستشعار البنوك التجارية بمسؤولياتها الاجتماعية في ظل الأرباح العالية التي تحققها دوريا – اللهم لا حسد .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال