3666 144 055
[email protected]
على عكس الاعتقاد السائد بأن الهجمات الجوية على مجمعي بقيق وخريص هي الأولى من نوعه، يشير التاريخ إلى تعرض الصناعة النفطية السعودية إلى العديد من الهجمات عبر تاريخها. وهي على اختلافها من حيث الطريقة والمنفذين والهدف المنشود منها إلا أنها اتفقت في مجملها على إلحاق الضرر باقتصاد المملكة ووقف الانتاج وإثارة الاضطراب وتحقيق مكاسب سياسية مؤقتة باستثناء اعتداءات بقيق وخريص والتي سأتحدث عنها بالتفصيل لاحقًا.
فشلت جميع هذه الاعتداءات في تحقيق مآربها بفضل من الله وبفضل كفاءة إدارة الأزمات ودرء المخاطر التي انتهجتها الشركات النفطية العاملة في السعودية خصوصًا أرامكو السعودية التي أذهلت العالم باحترافيتها ومهنيتها العالية في تعاملها مع الأزمة وما تلاها والأهم موقف المملكة الرسمي عبر لسان وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان حفظهما الله خلال الاعتداءات الأخيرة.
في هذه السلسلة سأتطرق إلى أبرز الاعتداءات التي تعرضت لها المنشآت النفطية كالآبار وخطوط الأنابيب ومعامل التكرير وناقلات النفط وفهم الظروف المحيطة واستراتيجية الشركات النفطية في التعامل مع هذه الهجمات واستهل بالحديث عن الهجوم الجوي الايطالي على المنشآت النفطية السعودية خلال الحرب العالمية الثانية.
قصف القاذفات الإيطالية على الظهران والبحرين
في 19 أكتوبر 1940، قامت قاذفة إيطالية بالاغارة عن طريق الخطأ على مدينة الظهران (المقر الرئيسي والحالي لشركة أرامكو السعودية). كان الهدف الرئيسي من هذه العملية هو استهداف المصافي النفطية في البحرين التي تزود الأسطول البريطاني بالوقود لكن إحدى القاذفات الأربع ضلّت طريقها خلال عبورها الأجواء العراقية قادمة من إيطاليا وقامت خطأً بقصف منشآت شركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا التي فازت بعقد امتياز استكشاف وتطوير الحقول النفطية السعودية. لم تسفر هذه العملية عن أضرار جسيمة أو انقطاع في الانتاج لكن في ظل الضبابية والتكهنات وخوفًا من هجمات أخرى، اتخذت إدارة الشركة الأمريكية حينها قرارًا بوقف الانتاج وترحيل موظفيها مع عائلاتهم إلى الولايات المتحدة وإبقاء عدد قليل منهم للقيام بأعمال الصيانة وتوفير الدعم الفني إن لزم الأمر.
لم يكن لدى إدارة الشركة آنذاك خطة طوارئ للتعامل مع الأزمات المفاجئة وكان القرار الذي اتخذ حينها سليمًا بسبب حداثة الصناعة النفطية في المملكة ومحدودية انتاجها من النفط والذي كان يأتي من حقلي الدمام وبقيق كما أنه باستطاعة الشركة الأم تلبية الطلب الأمريكي من النفط من مشاريعها المحلية.
الأهم مما سبق هو التخوف من تهديدات مستقبلية إذ أصبحت الحقول النفطية في السعودية والبحرين في مرمى الطيران الايطالي الذي حطم رقمًا قياسيًا عبر طيرانه المتواصل دون التوقف للتزود للوقود واحتمالية تكرار الهجمات ما زال قائمًا وهو أمر لم يحدث.
تفجير خط التابلاين
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، استأنفت شركة ستاندرد أويل والتي تغير اسمها لاحقًا إلى شركة الزيت العربية الأمريكية (أرامكو) إنتاج النفط من حقلي الدمام وبقيق وقامت بتطوير البنية التحتية وزاد إنتاجها بشكل متسارع بعد بدء إنتاج حقل الغوار. تزامنت هذه الزيادة مع تنامي الطلب على النفط في أوروبا والتي بدأت مسيرة إعادة الاعمار بعد الدمار الذي لحق ببنيتها التحتية خلال الحرب.
مثّلت هذه الخطوة فرصة كبيرة للتوسع في الأسواق الأوروبية المتعطشة للنفط لإعادة إعمارها لكن المعضلة الرئيسية التي كانت تعاني منها أوروبا آنذاك هو العدد المحدود من الناقلات البحرية وطول الفترة الزمنية للابحار عبر مضيق هرمز وباب المندوب وقناة السويس للوصول إلى الموانئ الأوروبية.
قامت أرامكو السعودية بالتغلب على هذه المعضلة وذلك بتدشين خط أنابيب يزيد طوله عن 1300 كم بعد الحصول على موافقة الملك عبدالعزيز رحمه الله يبدأ من بقيق ويمر عبر الأراضي الأردنية والسورية وينتهي في ميناء صيدا في لبنان والذي بإمكانه ضخ نصف مليون برميل يوميًا كحد أعلى وزاد انتاج المملكة في عام 1950 بمقدار 78 مليون برميل والتي مثّلت آنذاك 39% من طاقة تصدير أرامكو الاجمالية.
عُرِف هذا الخط بإسم الأنبوب العابر للبلدان العربية (Trans-Arabian Pipeline) والذي يعرف اختصارًا بإسم التابلاين وكان أطول خط أنابيب في العالم تم بناؤه في تلك الحقبة. شكّل ضمان الامدادات أمرًا مهمًا بالنسبة لإدارة الشركة لذا تم التنسيق مع الحكومات في المنطقة على حماية الأنبوب وعمل الصيانة الدورية للأنابيب والتجاوب السريع مع حوادث التسرب حال حدوثها. بسبب الصراع العربي الإسرائيلي تم تفجير الجزء الذي يمر عبر الجولان في عملية بتاريخ 30 مايو سنة 1969 في عملية تبنتها عناصر من جبهة التحرير الفلسطينية بهدف وقف الانتاج لكن سرعان ما تم ووقف التسرب وإصلاح العطب واستئناف التصدير حتى توقفه بالكامل سنة 1976.
حرق المنشآت النفطية خلال الغزو العراقي
تكررت الاعتداءات على الصناعة النفطية ولكن هذه المرة من قبل العراق خلال حكم الرئيس الراحل صدام حسين. قامت كل من شركتي تكساكو الأمريكية والعربية اليابانية النفطيتين التي تمثلان الجانب السعودي في المنطقة المقسومة بين السعودية والكويت بإخلاء موظفيها وعائلاتهم وذلك إثر سيطرة القوات العراقية على الكويت ووصول قواتها إلى الحدود السعودية.
كان القرار سليمًا إذ في غضون عدة أشهر تحولت المنطقة إلى ساحة حرب وقامت القوات العراقية لاحقًا بغزو الخفجي لكنها سرعان ما انكفأت وانسحبت تدريجيًا. خلال انسحابها من الكويت في يناير 1991، قامت القوات العراقية بإحراق أكثر من 650 بئر نفط في الكويت متسببة بحرق ما يناهز الـ 1.5 مليار برميل خلال 9 أشهر في أكبر كارثة تسرب في تاريخ البشرية عدا عن تدمير العديد من المنشآت النفطية في حقل الوفرة التابع للمنطقة المقسومة بين البلدين. بعد انتهاء الحرب، تمت إخماد الحرائق وإصلاح الأعطاب واستئناف الانتاج تدريجيًا في غضون أشهر قليلة.
ما أشبه الأمس باليوم إذ استهدف حرق الآبار سلب الكويت من مواردها النفطية التي حباها الله ويتكرر المشهد خلال قصف منشآت بقيق وخريص إذ حاول المعتدون وقف انتاج المملكة بالكامل وتدمير البنية التحتية للصناعة النفطية السعودية لكن مشيئة الله وكفاءة إدارة الأزمات التي انتهجتها أرامكو السعودية بالتنسيق مع وزارة الطاقة حالت دون ذلك.
في الجزء الثاني من هذه السلسلة، سأتطرق إلى الهجمات الانتحارية والإلكترونية والقرصنة البحرية وكيف تم التعامل معها.
© 2020 جميع حقوق النشر محفوظة لـ صحيفة مال
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734