الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نعود بالتاريخ الى الوراء لسرد قصة الفساد في هونج كونج قبل مبادرة مكافحة الفساد فيها وبعده، في عام 1960م، كانت هونج كونج من اكثر بلدان العالم فسادا. كان الفساد عبارة عن روتين أساسي في الحياة اليومية لموظفي القطاع العام، القطاع الخاص، والافراد من جميع الطبقات الاجتماعية بشكل عام. كان الفساد أشبه بالمشروع التجاري بين موظفي الدولة و مؤسساتها وبين عصابات الجريمة المنظمة والتي قد تتكون من رجال الاعمال او المتنفذين في الدولة.
كانت جميع الجرائم المنظمة محمية مثل القمار والمخدرات محمية بسبب الانتشار الصارخ للفساد. كان سائق سيارة الأجرة يشتري كود يلصقة على سيارته للتهرب من دفع الغرامات والعقوبات المرورية، سائق سيارة الإسعاف لا ينقل المريض للمستشفيات الا بعد دفع الرشوة حتى ولو كان المريض بين الحياة والموت، رجال الإطفاء كذلك، لا يباشرون عملية الإطفاء والإنقاذ الا بعد دفع مبلغ معين. والامثلة على قضايا الفساد كثيرة جدا. ولكن حدثت بداية التغيير في عام 1974م، بعد ما اعتقلت الشرطة البريطانية “بيتر قودبر” رئيس شرطة هونج كونج و نائب قائد منطقة كولون وادين بتهمة الفساد.
بعدها حدثت احتجاجات شرسة في الشارع لمحاكمة “قودبر”. عندها، قامت الحكومة البريطانية بانشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد و التي راهن الجميع على فشلها. وفعلا نجحت في الوصول الى الهدف المرجو، الا و هو خفض نسبة الفساد بشكل ملحوظ والعمل بشكل تدريجي على تغيير ثقافة الفساد السائدة الى ثقافة تحترم القانون.
كان نجاح هونج كونج ملفت للانتباه لجميع دول العالم. لذلك استنسخت دول أخرى استراتيجية هذه الدولة الصغرى التي كان الفساد ينخر أجهزتها. ولكن النتيجة لم تكن مرضية. مثلا تم نسخ استراتيجية هونج كونج على تايلند و كوريا والعديد من دول العالم، ولكن لم تؤتي نفس النتيجة التي حدثت في هونج كونج. عند قراءة استراتيجيات مكافحة الفساد في كثير من دول العالم، نجد ان الاستراتيجية ملمة بجميع المبادئ الأساسية لمفهوم مكافحة الفساد. ولكن لازالت هذه الدول تحتل المراتب المتأخرة في مؤشرات الفساد، يا ترى ما لسبب الحقيقي وراء هذا التخبط؟
في الواقع ان الفساد ليس بالموضع السهل مناقشته، هو من اكثر المشكلات تعقيدا والتي تقف الكثير من الدول حائرة امامه. من اهم أسباب فشل هذه الاستراتيجيات، هي ان الاستراتيجية بحد ذاتها لا تراعي فكرة ان أسباب تكون الفساد والاستعداد الثقافي لانتشاره يختلف من دولة الى أخرى و من مجتمع الى اخر.
وبالتالي يجب على كل دولة ان تصنع استراتيجية خاصة بها بعد دراسة ظاهرة الفساد من اربعة اركان رئيسية. سأورد ذكر هذه الأركان باختصار. فالركن الأول يعنى بإجراء مسح للبيئة الخارجية التي تؤثر في انتشار الفساد.
ويندرج تحت هذا الركن دراسة عدة مواضيع. أولها، تحليل الوضع السياسي في الدولة والإرادة السياسية بطرح العديد من الأسئلة المتعلقة بسياسات الدولة الداخلية و الخارجية و فحص السلطة التشريعية و المسائلة والشفافية ..الخ. ثانيها، يعنى بتحليل الوضع الاقتصادي للدولة سواء كان الوضع الاقتصادي للأفراد القاطنين على أرضها، او الوضع الاقتصادي المتعلق بنطاق التجارة والاستثمار. ثالثها، متعلق بالبيئة الاجتماعية.
وهذه بدورها تتناول الثقافة السائدة في الدولة حول ممارسات الفساد المختلفة و مواقف أبناء المجتمع اتجاه هذا الموضوع، ومستوى التعليم الذي يعنى بالأخلاقيات. المرحلة الثانية يتعلق بإجراء مسح للبيئة الداخلية. وهذا الركن يهتم بعدة أمور منها النظام الداخلي لمؤسسات الدولة من حيث المسائلة، طريقة تطبيق الأنظمة والقوانين ..الخ. كذلك يهتم بدراسة وضع الموظفين ومؤهلاتهم وخلفياتهم التعليمية والثقافية ومركزهم الوظيفية بالإضافة الى ما اذا كان هناك نظام يركز على نزاهة العمل ام لا. كذلك النظر على نوع المهارات الموجودة في المجتمع والاستراتيجيات التي على أساسها يدار العمل، والمبادئ العملية المشتركة …الخ. المرحلة الثالثة متمثلة في التعرف على المشاكل الرئيسية التي يعاني منها المجتمع.
على سبيل المثال، تحليل وضع جهاز الدولة والتعرف ماذا كانت المشكلة مرتبطة بالإرادة السياسية، او سوء إدارة عملية مكافحة الفساد، بسبب ضعف الرواتب، ضعف القوانين …الخ. والمرحلة الرابعة هي تصميم استراتيجية وفقا لما تحتاجه الدولة لتقليل الفساد ومحاربته.
في الجزء الثاني من هذا المقال سيتم استعراض تجربة هونج كونج عن قرب، ومناقشة ما اذا كانت المملكة الان في الطريق الصحيح لمكافحة الفساد ام لا زالت الاستراتيجية تحتاج الى المزيد من التنقيح والتعديل للوصول الى استراتيجية تتوافق مع أهداف رؤية 2030 .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال