الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بادِئَ ذِي بَدْءٍ نودُ أن نعرف القارئ الكريم بالتيسير الكمي Quantitative Easing وهو عبارة عن سياسة نقدية غير تقليدية تعتمدها البنوك المركزية من حين لآخر لزيادة عرض النقود ( طباعة النقود ) من أجل زيادة الإقراض من البنوك التجارية لرفع الإنفاق من قبل المستهلكين من خلال أدوات مالية تتمثل عن طريق شراء الأصول المالية من البنوك التجارية وشركات القطاع الخاص وهو ما يؤدي إلى زيادة احتياطيات البنوك عندما تصبح السياسة النقدية التقليدية غير فعالة، حيث يشتري البنك المركزي الأصول المالية لزيادة كمية الأموال المحددة مقدما في الاقتصاد وصولا الى تنشيط الاقتصاد القومي ، ويعتبر مصطلح “هليكوبتر الأموال” نوعا من التيسير الكمي حيث اطلق مؤسس المدرسة النقدية “ميلتون فريدمان” في عام 1969 هذا المصطلح حينما قال إن البنوك المركزية لا يمكنها الفشل في دعم زيادة المعروض من النقد مع قدرتها على ضخ أموال جديدة في الاقتصاديات التي تفتقر إلى الأموال هليكوبتر الأموال تعني ببساطة طباعة نقود حديثة ومنحها بشكل مباشر إلى الناس .
المدافعون عن هذه الاستراتيجية يقولون بأنها دافع قوي للتحفيز المالي وذلك لأنه يتم من خلال الإنفاق الحكومي، وخفض الضرائب أو المدفوعات المباشرة إلى المواطنين عبر أموال يتم طباعتها وليس من خلال الاقتراض أو فرض الضرائب كما انه فرصة جيدة عندما يكون الاقتصاد معرضًا لخطر الانزلاق نحو الركود أوفي مرحلة الركود ، حينها يمكن للحكومات استخدام هذه الاستراتيجية بتثبيت أسعار فائدة منخفضة مع تزويد المستهلكين بأموال إضافية للإنفاق بحرية أكبر.
كما يمكن للتيسير الكمي أن يغذي النمو الاقتصادي لأن الأموال التي يتم تحويلها إلى الاقتصاد يجب أن تسمح للناس بإجراء عمليات شراء أكثر اتساعا ولها تأثير هائل على كل من المستهلكين والشركات ، مما يؤدي إلى زيادة أداء سوق الأسهم والحراك الاقتصادي نتيجة لتوالد الاستثمارات واتساع دائرة النشاط الاقتصادي مما ينمو معه الناتج المحلي الإجمالي.
وفي المقابل، تشير تفاصيل النسخة العاشرة من نظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي “الأغراض والوظائف” المنشورة عبر موقعهم في الانترنت الى تعزيز صحة الاقتصاد الأمريكي واستقرار النظام المالي الأمريكي بتنفيذ إجراءات السياسة النقدية ومعدلات الفائدة الطويلة الأجل حيث يستخدم التيسير الكمي لمجموعة متنوعة من الأسباب: منها تعزيز الحد الأقصى للتوظيف عن طريق طباعة الأموال فالبنك الاحتياطي الفيدرالي بذلك سوف يستخدمها من خلال برنامج التسهيلات الكمية للمساعدة في خلق وظائف جديدة للأميركيين وكذلك لتشجيع الإقراض التي يُعتقد بأنها سوف تحفز الاقتصاد من خلال زيادة الإنفاق الاستهلاكي وتطوير الأعمال وزيادة الإنفاق فمع دخول المزيد من الأموال إلى الاقتصاد ، سيتمكن المزيد من المستهلكين من الإنفاق مما سيؤدي هذا بدوره إلى زيادة أرباح الشركة وخلق المزيد من فرص العمل وكذلك تحفيز سوق الأوراق المالية.
يحسب لقاهر التضخم بول فولكر رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأسبق، والذي نعاه الاقتصاديون الأسبوع ما قبل المنصرم كواحد من العمالقة الاقتصاديين الذين حملوا خلال مسيرتهم المهنية الممتدة لنصف قرن سجلا حافلا بالنجاح والعمل المهني الممنهج في تشكيل السياسات الاقتصادية والنقدية الامريكية حتى بات محل ثقة، إذ كان له الدور الأكبر في تنظيم استراتيجية التيسير الكمي حيث قاد حملة متزامنة لمكافحة التضخم الأمريكية لعام 1979-1980 والتي تطلب معها تعديلات كبيرة في معدل الفائدة، ومنذ سبتمبر 2008 وحتى نوفمبر 2014 أضافت برامج التيسير الكمي المتتالية مبلغ 3.6 تريليون دولار إلى الميزانية العامة للفيدرالي وهو ما يعادل 25% من مكاسب الناتج الإجمالي المحلي خلال الفترة ذاتها فسياسة التيسير الكمي كانت من أكثر السياسات جرأة في تاريخ السياسات النقدية الأمريكية .
ينتقد بعض الاقتصاديين هذه السياسات على اعتبار ان فوائدها قصيرة الاجل ويعتقد الكثير من الاقتصاديين بأن التيسير الكمي له العديد من السلبيات والتي لن يتم الشعور بها إلا في المستقبل منها : ان زيادة المعروض من النقود بسرعة كبيرة سوف تسبب التضخم وقد يشجع تدفق السيولة النقدية في السوق الى سلوك مالي متهور تؤدي الى زيادة الأسعار ويحدث هذا عندما لا ترتبط الزيادة في عرض النقود بحجم السلع المتاحة للبيع هناك مخاوف من ان تقوم البنوك بدلا من إقراض الأموال للمقترضين بخيار الاستثمار في الأسواق الناشئة والاقتصادات القائمة على السلع الأساسية والفرص غير المحلية ، مما يخلق هروبًا لرأس المال ، وهو ما لا يحفز الاقتصاد المحلي كما انه يُعتقد بأن التيسير الكمي سيؤدي الى انخفاض قيمة العملة المحلية وهو ما لا يفيد الصناعة والاستيراد فيؤدي ذلك إلى ارتفاع التكاليف ، سواء بالنسبة للمستوردين من الشركات والمستهلكين المحليين ، حيث سيتعين عليهم دفع المزيد من العملة المحلية في مقابل عملة البائع الأجنبية التي يتم استخدامها.
إن هذه الاستراتيجية يشوبها الكثير من الحذر ضمن أطراف السياسات النقدية عند متخذي القرار والبنوك المركزية إذ انه من الممكن لهذه السياسات أن تأتي بنتائج عكسية شديدة ، مما يؤدي إلى مستويات عالية للغاية من التضخم في حال فشلت البنوك التجارية في تقديم احتياطيات زائدة فقد يؤدي ذلك إلى خلل في سوق المال مما قد يؤدي في بعض الأحيان إلى التضخم وفقا لبعض المدارس الاقتصادية كما انهم يرون بأنها ستخلق الفوضى في التجارة الدولية حيث يمكن استخدام الأموال المطبوعة حديثًا من قبل الحكومة والمستهلكين لاستيراد سلع وخدمات جديدة من بلدان أخرى هذه السلع والخدمات تأتي بشكل أو بآخر مجانًا وبمعنى آخر تنخفض قيمة عملة المستورد ، مما قد يثبط المصدرين .
مجمل القول : استخدمت اليابان استراتيجية التيسير الكم في العقد الأول من القرن الماضي والتي كانت تعاني من ركود طويل ونجح في الوصول الى المرحلة المستهدفة للنمو ، كما طبقها الكثير من دول العالم المتقدم خلال فترة الركود الكبير في عام 2009 وما بعدها وكان ذلك بمثابة انتصارا كبيرا لـ “النظرية النقدية الحديثة MMT كما طبقها العديد من الدول المتقدمة والنامية صحيح انها قد حققت نجاحا وآثارا إيجابية في الدول الصناعية المتقدمة عزز من نموها الاقتصادي ولكن في المقابل الشواهد الاقتصادية لا تبشر بالنجاح في الدول النامية او الناشئة ذلك ان نجاحها هنا يتوقف على ما يقابل ذلك من حراك وتوالد البرامج الإنتاجية والتحول في مكونات الاقتصاد الى قاعدة واسعة من الخيارات الممكن من خلالها التحول الى نمو مستدام تتطور معه كافة الأنشطة الاقتصادية والصناعية ناهيك عن حجم المشكلات الاقتصادية العميقة والمتعددة في تلك الدول النامية.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال