الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لا يُمكن استشراف المستقبل المالي والاقتصادي لأيَّة دولة في مرحلة عادية من تاريخها إلاَّ من خلال استقراء الماضي المنظور لها، فما بالنا بالمملكة وهي تمرُّ حالياً في أدقِّ مراحل الانتقال من الاقتصاد النفطي إلى الاقتصاد الاستثماري الحقيقي.
عندما صدرت ميزانية 2020 –وهي ميزانية مفصلية في تحديد الطريق للعقد القادم قبل 2030- فأول ما جذب نظري كان فقرة “أهم التطورات المالية والاقتصادية في عام 2019” (ميزانية 2020، صـ12).
وقد جاء في هذه الفقرة الأساسية -قبل الانطلاق لاستشراف العام القادم- مجموعة من منجزات عام 2019، وهي:
(1) ديناميكية السياسة المالية؛ وهو الأمر الذي يعني بحروفٍ أكثر بساطة مدى مرونة الاقتصاد لدى حدوث أيِّ تغييرٍ محلي أو دولي على المستوى المالي والاقتصادي، والاستجابة هنا لا تعني انجراف اقتصاد المملكة وراء التيار، بل القدرة على مواجهة هذا التيار بإجراءات سريعة.
ويبدو أنَّ وزارة المالية قد أدرجت ديناميكية السياسة المالية في فقرة التطورات المالية والاقتصادية لعام 2019 بسبب ظهور اقتصاد المملكة بشكلٍ مشرقٍ في العام الماضي رغم حدوث إضرابات مالية كثيرة في العالم؛ مثل انهيار أسهم بعض الشركات التكنولوجية العملاقة في وول ستريت الأمريكية كأمازون وفيسبوك.
إلاَّ أنَّ ما يؤخذ على هذا التصريح من وزارة المالية عدم توضيحه بالشكل الكافي أولاً، و إيجاد مثال عملي له ثانياً.
(2) الانخفاض الكبير في العجز؛ ففي سنوات الانتقال من الاعتماد شبه الكامل على النفط إلى بناء الاقتصاد الاستثماري القوي، تكون مسألة تخفيض العجر مسألةً في غاية الصعوبة؛ نتيجة استخدام موارد الدولة لتحفيز الاستثمار وإنشاء البُنَى التحتية القادرة على هذا الانتقال الجذري، فإن حقَّقت الدولة هذا الهدف مع انخفاض في العجز؛ فهذا يُعتبر إنجازاً استثنائياً.
إلاَّ أنَّ الأمر الواجب ملاحظته هو ارتفاع أسعار النفط لأكثر من 20% عام 2019، ولذلك يجدر التنبيه إلى ضرورة حذف الفارق المتمثِّل بنسبة ارتفاع سعر النفط من نسبة انخفاض العجز؛ خاصَّة أن ميزانية 2020 قد أكَّدت أنَّ نسبة انخفاض العجز ستبقى ثابتة في 2020، وهذا الأمر سيكون مؤثِّراً في حال انخفاض أسعار النفط.
(3) تحسُّن إجمالي الإيرادات؛ لقد كان هذا التحسُّن مدفوعاً بتنمية في الإيرادات غير النفطية المدعومة بتحسن النشاط الاقتصادي، وهو الأمر الذي يُشكِّل علامة فارقة؛ لأنَّ تحسُّن الإيرادات لم يكن مدفوعاً بتحسُّن أسعار النفط.
ولكن الأمر الواجب ملاحظته أولاً هو نسبة الإيرادات غير النفطية المُتحسِّنة أولاً، ثم طبيعة الإيرادات هذه الإيرادات غير النفطية؛ فإن كانت ذات طبيعة غير استثمارية أو إنشائية أو صناعية، فلا يجدر الأخذ بها في هذه المرحلة التي تحتاج إلى إنشاء البنية التحتية للاقتصاد.
(4) النمو في النشاط الاقتصادي؛ وهو الأمر الذي يحتاج إليه أيُّ اقتصاد في مرحلة التغيير الجذري، حيث إنَّ النمو في النشاط يُشبِه دفع الدورة الدموية للإنسان، فبدونه لا يمكن إجراء عمليات تغيير حقيقية.
إلاَّ أنَّ النشاط الاقتصادي النامي ليس بمؤشِّرٍ إيجابي دائماً؛ فقد تكون التدفُّقات النقدية في أعلى معدلاتها، إلاَّ أنَّها تكون في اتجاه تخارج المستثمرين من مشاريعهم أو بيع الأصول العقارية بأسعار منخفضة، ولذلك تجب ملاحظة هذه العوامل السلبية التي قد ترفع من النشاط الاقتصادي دون نمو حقيقي في المركز المالي لاقتصاد الدولة.
(5) انخفاض الإنفاق الحكومي عن المتوقع؛ وهو أمر في غاية الأهمية في ظلِّ وجود تكاليفٍ مرتفعةٍ في مرحلة الانتقال نحو الاقتصاد الحقيقي، فانخفاض الإنفاق الحكومي سيزيد من توافر السيولة لدى الدولة، وهذا ما سيَمنحها المزيد من فرص تشييد البنى التحتية وإطلاق مجموعة من الحوافز الاستثمارية.
ولكن المطلوب في هذه المرحلة هو وضع خطة عمل دقيقة ومدروسة لكيفيَّة استغلال الفائض الآتي من انخفاض الإنفاق الحكومي؛ حتى لا يتمَّ تبديده خارجاً عن إطار تحقيق أهداف رؤية المملكة 2030.
وبالمُحصِّلة، يبدو أنَّ اقتصاد المملكة يسير في الاتِّجاه الصحيح لتحقيق الأهداف الاقتصادية الأساسية التي تُعتبر بمثابة الحلم السعودي الجميل في الوصول لاقتصاد تجاري وصناعي قادر على تجاوز الحاجة للموارد النفطية.
إلاَّ أنَّ المطلوب من وزارة المالية في هذه المرحلة الحسَّاسة من الانتقال الاقتصادي هو تحقيق أكبر استغلال للموارد المالية في المملكة التي بدأت تُتَاح لها، فبهذه الطريقة يمكن أن نصل إلى منجزات 2030 قبل انتهاء هذا العقد، أمَّا في حالة تبديد هذه الموارد في سبل مُغايِرَة لحاجات التنمية الجذرية التي تُغيِّر وجه المملكة الاقتصادي، ففي تلك الحالة فقط يمكن أن تصبح رؤية 2030 بعيدة المنال.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال