الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
نصف الناس أعداء لمن ولي القضاء – هذا إن عدل – ، أما إن لم يعدل فسيعاديه عامة الناس إلا فئة قليلة من المشاركين له في ظلمه والمنتفعين منه…
أما القرعة فهي حاكم عدل ، فبالرغم أنه لا منطق ولا تعليل أو تسبيب لأحكامه ، إلا أنه يرضى بحكمه عامة الأخصام – فيما هو داخلٌ في اختصاصاته – وذلك لتمتعه بالنزاهة المطلقة ، حتى أنه لا يجرؤ احدٌ أن يتهمه أو يطعن في نزاهته أو يدعي محاباته لأحد الخصمين.
في زمن مضى، حين كانت الشوارع الداخلية في أحياء مدينة الرياض – وغيرها من المدن – تمتليء بهواة كرة القدم (لابسي الأطقم البيضاء) ، كانت تستخدم القرعة كثيراً لحسم النزاعات. فحينما يأتي لاعب متميز، يتقاتل الفريقان؛ كلٌ يرجو أن يظفر به ، ولا يرتضون الا القرعة لتفصل بينهم. وكذا إذا أقبل عليهم ذاك القادم يمشي الهوينا وقد أدخل كلتا يديه في جيوبه الجانبية حتى اذا وصل بادرهم قائلاً : ” فرّقوني” ، وهو لا يعرف من كرة القدم فيما يبدو الا اسمها، حينها يحتار فيه الجمع، و يتدافعه الفريقان؛ كل يؤثر به الآخر، رجاء السلامة من هفواته ونكباته، فإذا احتدم الخلاف بين الطرفين ولم يتنازل أحدهما، لم يبق إلا القرعة لتقرر أي الفريقين أحق بهذه النازلة.
إن هذه الأداة البسيطة لحسم النزاع وتقرير الأولى بالغنيمة أو السلامة من الخسارة، لم تكن قاصرة على هواة كرة القدم أولئك، و لا على النزاعات اليسيرة أو في الأمور التافهة ، بل يبدو أن شأنها أكبر و أثرها أخطر. وليست هي وسيلة حديثة ، فأشهر أدوات القرعة اليوم وهي العملة المعدنية ذات الوجهين، يرجع تاريخها إلى سبعة قرون قبل الميلاد، حيث استخدم الرومان عملة أو قطعة عليها رمز السفينة وعلى الوجه الآخر رمز الرأس لذلك عرفت بـ (Ship or Head) ، ثم تنوعت الرموز بعد ذلك وبقيت هذه الوسيلة هي الأشهر حتى يومنا هذا.
إذن ما هو حدود العمل بهذه الأداة من أدوات حسم النزاعات ، وما هو جواب السؤال عن شرعية و قانونية و منطقية استخدام القرعة في القوانين المختلفة وفي الشريعة؟ و هل يمكن أن تحسم النزاعات عند العقلاء وفي الشرائع المختلفة بوسيلة تعتمد على الحظ المجرد؟ سيما وأنه في الشريعة الإسلامية يبقى الأصل على منع الميسر والمقامرة، فهل للقرعة مدخل في أحكام الشريعة وهل ممكن أن يكون لها مدخل في القضاء أيضاً وفي الأنظمة السعودية؟
لذا سنشير بإيجاز – فيما بقي من المقال – إلى مواطن إجابة هذه السؤالات.
أما عند الأمم السابقة .. فإضافة إلى ما تمت الإشارة إليه من استتعمال الرومان، فقد يكون أقدم ما يروى ، هو ما يوثقه لنا القرآن الكريم من استعمال الأنبياء للقرعة كما في قصة يونس لما كان على الفلك (فساهم فكان من المدحضين) أي دخل في الاستهام أو القرعة، وكذا قصة زكريا في كفالة مريم (إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم) فكان استهامهم أو قرعتهم بإلقاء الأقلام -كما في رواية-.
أما استخداماتها في القوانين ، فعلاوة على استخداماتها في قوانين الألعاب الرياضية فإنها تدخل في كثير من الأنظمة والقوانين ، ففي القانون الكندي ترجح القرعة بين المرشحين المتساويين في الأصوات، وبين الشركتين المتساويتين في ميزانية العطاءات المقدمة للمشاريع. ومثل هذه الاستخدامات لها مثيلاتها في مسائل الانتخابات في القوانين الأمريكية والبريطانية.
وفي النظام السعودي للشركات، في المادة 111 فقرة (1) في مسألة استهلاك أسهم المشاريع التي تهلك تدريجياً، نصت الفقرة على : [… ولا يكون استهلاك الأسهم إلا من الأرباح أو من الاحتياطي الذي يجوز التصرف فيه. ويكون الاستهلاك تباعاً بطريقة القرعة السنوية أو بأي طريقة أخرى تحقق المساواة بين المساهمين.]
أما استعمالها في الشريعة .. فقد استعملها النبي صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع، كقصة الذي أعتق ستة من العبيد كما في حديث عمران بن حصين رضي الله عنه: «أن رجلاً أعتق ستة مملوكين له عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثاً، ثم أقرع بينهم، فأعتق اثنين وَأَرَقَّ أربعةً، وقال له قولاً شديداً». وجاء ذكرها في السنة أيضاً في مواضع كحديث “لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه”.
وكقاعدة عامة فإن القرعة لا تستخدم إذا تعينت المصلحة أوالحق في جهة، وإنما إذا تساوت درجة الاستحقاق ولا يوجد أي مرجح ولم يمكن القسمة، ففي هذه الحال يصار إلى استعمال القرعة. و تجري القرعة في الشريعة – عموماً – في تمييز المستحق غير المعين والمعيّن عند الاشتباه بغيره و في تمييز الأملاك ، وفي حقوق الاختصاصات كالتزاحم على الصف الأول وإحياء الموات، و كذا في حقوق الولايات كاجتماع الأولياء في النكاح و الورثة في استيفاء القصاص.
أما آلية إجراء القرعة .. فمهما اختلفت أدواتها الصحيحة فهي معتبرة، وتبقى العملة المعدنية هي الأشهر، وقد تكرر ثلاث مرات وقد يكتفى بواحدة، لكن في فقه الشريعة يذكر الفقهاء أن الأشهر هو كتابة أسماء المقترعين أو الشركاء في رقاع أو أوراق، والطريقة الأخرى كتابة أجزاء المقسوم أو الخيارات في رقاع أو أوراق، وقد ذكر الامام العيني في كيفية القرعة بالخواتيم : ” يؤخذ خاتم هذا وهذا ويدفعان إلى رجل فيخرج منهما واحدا”.
أما أشهر استخداماتها في التاريخ الحديث .. فيذكرون دوماً قصة تسمية مدينة بورتلاند في ولاية أوريقون الأمريكية التي جرت بين رجلين من السكان الأصليين لنيوانجلند، حين اكتشفا هذه الجهة من الولاية واختلفا في تسميتها، وكيف أنها حسمت بالقرعة لصالح القادم من مدينة بورتلاند في ولاية ماين، فاختار لها نفس اسم مدينته، وكان ذلك عام 1945 باستخدام عملة معدنية (سنت امريكي واحد) لا يزال معروضاً في متحف الولاية. والمثال الشهير الآخر، هو قصة الأخوان رايت، في أول رحلة طيران في العالم جرت عام 1903 في ولاية نورث كارولاينا حيث حسمت القرعة أي الأخوين يطير بالطائرة أولاً.
أما كيف يكون الحظ هو العدل ؟
فإن هذه الأداة لا تستعمل إلا عند تساوي الاستحقاق أو الخيارات أو تشابههما إلى درجة لا يمكن الترجيح معها بأي طريق من طرق الحكم المعتبرة عادة. لذلك تقبل بها العقول والنفوس وفي ذلك حسم للخلاف و دفع للتهمة.
إذن فإن أداة “فض المنازعات” التي كان يستخدمها لاعبو كرة القدم في المستطيلات السوداء في شوارع الأحياء السكنية في الرياض، هي أداة قانونية لها أبعادها و عمقها و منطقها، الأمر الذي جعلها معتبرة في حسم أوجه متنوعة من المنازعات في الشرائع والقوانين والأزمنة المختلفة.
شكراً لوقتكم وقراءتكم ..
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال