الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يقال أن تشخيص المشكله هو نصف الطريق لحلها، لذلك ترتبط مسألة حلّ المشكلات ارتباطاً وثيقاً بتحديد الأهداف وتحقيقها، ويمكن استخدام عدّة أساليب في سبيل المساعدة على حلّ المشكلات ضمن خطوات محدّدة وواضحة تتمثّل في تحديد المشكلة من ناحية اكتشافها، وتكوين فكرة صريحة وواضحة حولها وأسبابها، تليها توفير الخيارات أو البدائل الممكنة، ثم تقييم الحلول، فإختيار الحلّ المناسب، ثم تطبيق الحلّ، والمراجعة. وبما أنّ عمليّة حلّ المشكلات مرحلةٌ مستمرّةٌ، فإنّ استمرار المراجعة مطلبٌ مهمٌ لدراسة ظروف التنفيذ ، ومراقبة التطبيق وقياس نجاح الحل.
والإسكان في المملكه العربيه السعوديه هو أحد التحديات التي تواجهنا ، فغنيٌ عن القول أن أحد أهم ما يشغل المجتمع هو كيفية الحصول على سكن، حيث تشهد المملكه نموا كبيرا وتزايدا لأعداد الأسر سنويا، ويُعد تمكين المواطن من تملك السكن الذي يحتاج ليؤويه وأسرته ويشعر معه بمزيد من الأمن والاستقرار أحد أهداف الدوله منذ عقود، فالمملكة ولأكثر من أربعة عقود دعمت تملك المواطن للسكن من خلال برنامج صندوق التنمية العقارية الذي أقرض خلال تلك الفترة ما يقارب مليون مواطن، وكان حلاً ناجعاً طيلة تلك العقود. أما اليوم فإن الزياده الكبيره في عدد الأسر الباحثه عن تملك السكن تفرض التفكير في حلول أخرى، وهذا مابدأت به فعلياً وزارة الإسكان من خلال السنوات الماضيه، ولكن هل تلك الحلول كافيه للتغلب على ذلك التحدي؟
حتى نحدد الجواب يجب أن نحدد المشكله بدقه، ولكي نعرف إن كانت الحلول قد غطت جميع جوانبها. ولعلنا هنا نوضح أن وزارة الإسكان قد حددت أهدافها منذ عدة سنوات في دعم العرض وتمكين الطلب، وإذا كانت قد عملت بجد على موضوع دعم العرض من خلال زيادة حجم المشاريع السكنية بالشراكة بين الوزارة والمطورين العقاريين، والتي تتوزع في مختلف المناطق، إلا أن هدف تمكين الطلب (في رأيي) لازال بعيداً عن التحقيق، وهنا يجدر بنا العوده إلى جذور ذلك.
إن القدره الماليه والإئتمانيه للراغبين في السكن وغياب أدوات التمويل للفئه الأقل قدره وهي الشريحه الكبرى هما أهم التحديات، ونضيف إليها قضية أزمة الفكر في نظرالراغبين في تملك السكن، مع التأكيد على أن ذلك كله لم يغب عن أصحاب القرار في هذا القطاع.
وأود هنا التذكير بمقولة أن “الإسكان هو أزمة فكر وليس أزمة إسكان” التي لم يتقبلها الفكر التقليدي للمجتمع السعودي وظل لفترة يهاجمها بعد أن تحدث عنها معالي وزير الإسكان ماجد الحقيل في منتدى أسبار في نهاية عام 2015م ، وذكر وقتها أن أكبر تحدٍّ يواجه وزارة الإسكان هو تصحيح أزمة فكرية متراكمة من عقود إلى ثقافة مجتمع بأكمله بما فيهم رجل الشارع، والعقاري، والمطور، وصاحب القرار.وقال إنها جانب فكري يتعلق بالتخطيط للسكن منذ وقت مبكر، وأن فكرة (بيت العمر) فكرة خاطئة، وتحدث عن غياب الفكر الادخاري الذي يساعد على تملك منزل. وللأسف فقد تلقى كثير من نشطاء وسائل التواصل الإجتماعي تلك المقوله بتعليقات كانت في معظمها ساخرة!، وهنا أتسائل كغيري عن ماتم إجرائه لتصحيح أزمة الفكر تلك. ولعلي هنا أعود للتأكيد على أن دراسة القضيه من جذورها تؤكد صحة ذلك التشخيص، ولكن هل كانت الحلول كافيه لعلاجه وسأوضح لاحقاً لماذا.
إن حجم الوحده السكنيه هو أحد التحديات التي تواجهنا نظراً لإنعكاس ذلك على تكلفتها على المستفيد، ففي بحث قمت بإعداده منذ عدة سنوات أثناء دراستي بكلية الدراسات العليا للتصميم بجامعة هارفارد، توصلت إلى أن مساحة الوحده السكنيه في مدينة الرياض حسب عدد السكان فيها خلال العقود الماضيه قد تزايدت من 20-25م2 للفرد في بدايات خروج الرياض خارج سورها القديم إلى 75-80م2 للفرد في الثمانينات الميلاديه بسبب الطفره التي حدثت آنذاك والتي كانت حاله إستثنائيه، ثم إنخفضت تلك المساحه إلى 60-65م2 للفرد حالياً، ومع ذلك فلاتزال تلك المساحات أكبر بكثير من المتوسط العالمي للمساحه المخصصه للفرد في المسكن والتي تبلغ 45-50 م2، مع ملاحظة أنني إستبعدت أعلى ثلاث دول وهي الولايات المتحده الأمركيه وكندا وأستراليا، وكذلك أقل ثلاث دول وهي الصين وروسيا وهونج كونج من البيانات التي تمكنت من الحصول عليها حتى يكون المتوسط أقرب للدقه.
وذلك يعني أن المساحه المخصصه للفرد في الوحده السكنيه عندنا قد تضاعف مايقارب 4 أضعاف خلال أربعة عقود ولأسباب إستثنائيه لايجب القياس عليها، بل أنه وبسبب ذلك تم إستحداث فراغات كبيره في الوحدات السكنيه ربما لاتستخدم إلا في فترات محدوده جداً من السنه رغم تكلفة إنشائها وتشغيلها العاليه على أصحاب المساكن. ورغم إنخفاض مساحة الوحده السكنيه بنسبة 20% من أعلى ماوصلت إليه خلال العقود الأربعه التي تلتها فإننا بحاجه إلى تخفيضها أكثر بنسبة تصل إلى 25% للوصول إلى مساحه سكنيه للفرد تتناسب مع المعايير الدوليه وتخفض تكاليف التملك، كون ذلك سيتسبب في تخفيض أسعار الوحدات السكنيه والتي لاتزال قريبه من 10 مضاعفات دخل الفرد السنوي، وهذا بعيد جداً عن أهداف رؤية المملكه 2030 لخفض النسبة بيـن متوسط سعر الوحدة ومتوسط دخل الفرد السنوي الى 5 اضعاف بحلول العام الحالي 2020م.
من جهه أخرى فإن هناك من يرى أن إرتفاع أسعار الأراضي هو السبب في إرتفاع الأسعار، وهي مقوله صحيحه جزئياً إلا أنها لاتُظهر لنا الصوره كامله، فقيمة الأرض تتراوح من 20% من قيمة المسكن في مناطق وأحياء الأراضي ذات القيمه المنخفضه وهي المستهدفه من أصحاب الدخول المتوسطه والأقل دخلاً إلى مايصل إلى 50% في أحياء الأراضي ذات القيمه العاليه والتي يسكنها مرتفعي الدخل. وبالتالي فإن إنخفاض أسعار أراضي تلك الأحياء إلى النصف سيحقق إنخفاضاً في قيمة الوحده السكنيه لن يتجاوز 10-15% للفئات المستهدفه مقارنه بإنخفاض إضافي مقداره 25% في حال تم إستهداف تخفيض المساحه المخصصه للفرد في الوحده السكنيه مع عدم الإخلال بمتطلبات الأسره، وهذه الفرضيه أيضاً في حال ثبات تكاليف البناء والتي تشهد إرتفاعاً متواصلاً لأسباب عديده ليس المجال هنا لذكرها.
الجانب الآخر الذي تحدث عنه معالي الوزير كان في غياب الفكر الإدخاري الذي يساعد على تملك المنزل، ولعلي هنا أستشهد بنتائج مسح إنفاق ودخل الأسرة لعام 2018 والذي يتم تنفيذه كل خمس سنوات من قبل الهيئة العامة للإحصاء، والتي أظهرت نتائجه أن متوسط الدخل الشهري للأسرة السعودية خلال عام 2018 بلغ نحو 14.82 ألف ريال، بزيادة قدرها 8.9% عن عام 2013، وبلغ متوسط الدخل الشهري للأفراد السعوديين ذوي الدخل 7,940 ريال. ولكن وفقا للبيانات بلغ متوسط الإنفاق الاستهلاكي الشهري للأسر السعودية 14.58 ألف ريال،كما بلغ متوسط الإنفاق الشهري العام للأسرة السعودية 16.13 ألف ريال.
وهذا يعني ببساطه أن الإنفاق العام للأسر السعوديه يتجاوز دخلها بنسبة 9%، ولتجاوز ذلك فإن الأسر تلجأ إلى القروض الإستهلاكيه، حيث بلغت القروض الاستهلاكية للأفراد في السعودية حسب بيانات مؤسسة النقد العربي السعودي بنهاية الربع الثالث من العام 2019 نحو 324.69 مليار ريال، وهذا يعني أن القروض الإستهلاكيه قد تضاعفت 7 مرات خلال 21 عاماً حيث كانت قيمتها 46.1 مليار ريال في نهاية العام 1998م، وبالتالي فنحن نسير في الإتجاه المعاكس للفكر الإدخاري!
ومع أن هناك وجهاً آخر يعطينا آمالاً كبيره بحل هذه الأزمه، والذي يتمثل في إرتفاع القروض العقاريه المقدمه للأفراد ووصلت إلى مايقارب 180 الف قرض خلال العام 2019م حسب إحصائيات مؤسسة النقد العربي السعودي مرتفعه من 50 الف قرض خلال العام 2018م، و 30 الف قرض في العام 2017م، وتستهدف الوزاره أكثر من 200 الف قرض خلال العام 2020م، وهذه مؤشرات جيده تجاه حل جزء من المشكله، وقد أدت إلى أرتفاع إجمالي القروض العقاريه للأفراد والشركات إلى مايقارب 300 مليار ريال بنهاية العام 2019م، ولكنها تبقى أيضاً بعيده عن مستهدف رؤية المملكه 2030 للإســتفادة مــن فــرص التمويــل العقــاري الممكنــة مــن خــلال رفــع إجمالــي القــروض العقاريــة القائمــة إلــى 502 مليــار ريــال ســعودي بحلول العام الحالي 2020م. والمؤكد هنا أن السبب الأبرز هو وجود شريحه كبرى ممن لاتنطبق عليهم شروط التمويل في كون إنفاقهم يتجاوز دخولهم وبالتالي فهم مرتبطين بقروض إستهلاكيه تحد من ملائتهم للإقتراض السكني وقدرتهم عليه.
ولعلي أختم هذه المقاله بإعادة التأكيد على ضرورة العمل من الجميع لتعديل الفكر في المجتمع من ناحية حجم الوحده السكنيه، وكذلك تحفيز الأسر على الإدخار وترشيد الإنفاق، مع ضرورة وجود برامج وحلول تمويليه إضافيه لتمكين الطلب، وتوسيع نطاق عمل ومستهدفات الإسكان التنموي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال