الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يَخلُطُ الكثير من الناس -وحتى بعض المختصِّين في القانون- بين الشركة المهنية والمشروع الاجتماعي، فيُخيَّلُ إليهم أنَّ شركة المحاماة المهنية هي مشروعٌ ذو أبعادٍ اجتماعية؛ ولذلك فإنَّهم يستغربون من المحامي الذي يَطلبُ أتعابه عن الاستشارة الشفهية.
والحقيقة أنَّ السبب من وراء هذا الخلط هو عدم تصنيف الشركات المهنية –وشركة المحاماة إحداها- من ضمن الشركات التجارية نتيجة مُمَارستها لعملٍ مدنيٍّ لا يتَّصفُ بالصفة التجارية.
حيث إنَّ نظام التجارة قد اشترط في العمل ذو الصفة التجارية أن يَستهدِفَ تحقيق الربح من خلال البيع والشراء أو غيرها من التعاملات التي تأخذ صفة المضاربة، في حين لم يمنحْ هذا النظام الصفة التجارية للمهن الحرفية أو اليدوية أو المدنية –كالمحاماة- لأنَّ طبيعتها تَتَنافى مع المضاربة.
فهذه المهن تأخُذُ شكل العمل الفردي إلى حدٍّ ما، مع وجود لمسةٍ شخصيةٍ طاغيةٍ على المنتجات أو الخدمات التي يتمُّ تسويقها، فتكون براعة الشخص الحرفي أو خبرة المحامي مثلاً هي الأساس في التعامل معه، دون أن يكون هناك بيعٌ أو شراءٌ بالشكل الذي نراه في المتاجر أو الشركات التجارية.
وبالتالي، فإنَّ ما يُحدِّدُ الفرقَ بين الشركة المدنية والتجارية هو عنصر العمل الأساسي للشركة؛ فإذا كان هذا العمل عملاً تجارياً كانت الشركة تجارية، وإن لم يكنْ، كانت الشركة مدنية.
ووفق هذه المعايير فإنَّ شركة المحاماة هي شركة مهنية مدنية تقوم على أساس المعرفة والخبرة والثقة في شخصية المحامي أو الكادر القانوني الذي ينتمي لهذه الشركة.
أي أنَّ انتفاء الصفة التجارية عن شركة المحاماة لا ينشأ من أنَّ خدماتها هي خدمات مجانية؛ بل لأنَّ عملها ليس تجارياً وفق تصنيف قانون التجارة، ذلك بغضِّ النظر عن مسألة أتعاب خدمات المحاماة.
وهذا يعني أنَّ شركة المحاماة الناجحة قد تتقاضى من الأتعاب ما يتَجاوَزُ بأضعافٍ أحد المشاريع التجارية الفاشلة؛ وهذا لأنَّ العمل المهني ليس بعملٍ خيريٍّ على الإطلاق، بل هو عملٌ مأجورٌ يتَّصف بالصفة المدنية.
وبالتالي، ليس لأحدٍ أن يلومَ المحامي إن اشترط تقاضي أتعابٍ في مقابل تقديم استشارته، بل إنَّ تقاضي هذه الأتعاب سيدفعه إلى المزيد من العمل والالتزام.
أمَّا المشروع الاجتماعي من جهةٍ أخرى، فهو عبارة عن منشأةٍ خيريةٍ تهدفُ إلى تحقيق النمو في أحد المفاصل الاجتماعية للدولة، فيمكن أن نراها تَرعَى شؤونَ الفقراءِ، أو تُقدِّمَ أجهزةً طبيَّةً للمُعَاقين، أو حتى تقوم بتيسير شؤون زواج الشباب، إلى غير ذلك من النشاطات الاجتماعية.
وبهذا المفهوم فإنَّ المشروع الاجتماعي هو عبارةٌ عن مشروعٍ مدنيٍّ خيريٍّ، فهو ليس بتجاريٍّ ولا بِمِهَنيٍّ؛ لأنَّ المشروع التجاري ينشأُ على أساس ممارسة عملٍ تجاريٍّ على سبيل الاحتراف، أمَّا المشروع المهني فيهدف إلى العيش من أتعاب ممارسةِ مهنةٍ مدنيةٍ لا تتضمَّن عملاً تجارياً.
أي أنَّ الفرق بين الشركة المهنية -كشركة المحاماة- وبين المشروع الاجتماعي يكمن في هدف نشاطها الأساسي، وليس في طبيعة هذا النشاط؛ لأنَّ طبيعة نشاط الجهتَيْن هي مدنيةٌ بحتةٌ.
فالمحامي يهدف إلى العيش الكريم من ممارسة مهنته؛ ولذلك فهو يتقاضى أتعاباً منها، وبالمقابل يؤدِّي عمله بشكلٍ ملتزمٍ ووفق الأصول، بينما الشخص المُتَبَرِّع يقوم بأعمال المشروع الاجتماعي بهدف تحقيق غاياتٍ اجتماعيةٍ نبيلةٍ على سبيل التبرُّع المحض.
وبناءً عليه، فإنَّ إجبار شركة المحاماة ذات الطبيعة المدنية المهنية على تقديم خدماتها بشكلٍ إنسانيٍّ خيريٍّ غيرَ مدروسٍ سيؤدِّي إلى انزلاق المركز المالي للشركة التي تعمل بآلية الشركات التجارية من حيث المحاسبة.
ولكن بالمقابل، فإنَّ وجودَ مشاريعٍ تجاريةٍ تَسْتَتِر تحت ستار المشاريع الاجتماعية الخيرية يُساهِمُ في ازدياد نسبة التهرب الضريبي وارتكاب المخالفات لقانون التجارة، وحتى قد يكون المشروع الاجتماعي ستاراً لعملٍ إجراميٍّ مثل عمليات غسل الأموال.
وبالنتيجة، فيُشترطُ لتحقيق رؤية المملكة 2030 أن يتمَّ إسباغ الطبيعة المدنية على شركة المحاماة وغيرها من الشركات المهنية من جهة أولى، وإسباغ الصفة التجارية على الشركات التي تقوم بنشاط تجاري من جهة ثانية، وإسباغ الصفة الخيرية على المشاريع الاجتماعية من جهة ثالثة.
أمَّا في حالة إجبار الشركات المهنية على تأدية العمل الاجتماعي الخيري، ستفقد المملكة عندئذٍ عنصر جذب الاستثمارات المهنية التي تتمثَّل بالمشاريع المهنية الكبرى مثل شركات المحاماة العالمية؛ لأنَّ هذه الشركات ستخشى ذهاب جزء من رأسمالها ومجهودها سدىً في مشاريعٍ خيريةٍ، ذلك في الوقت الذي لم يتمَّ تأسيسُ هذه المشاريع لمثلِ هذهِ الغاية.
أمَّا في حال قدرة المشاريع التجارية على لبس قناع المشاريع الاجتماعية الخيرية، فإنَّ استتار الشركات التجارية بهذه الطريق تحت ستار المشاريع الاجتماعية سيطعن في شفافية الاقتصاد، وسيؤدي إلى ضعف الحصيلة الضريبية، والأخطر إلى ارتفاع مستوى الجرائم الاقتصادية.
ولذا، فإنَّ من واجب جهات الرقابة على المؤسَّسات التجارية والمهنية والاجتماعية أن تتضافر، ليس لأجْلِ توفير التسهيلات القادرة على إنشاء وتسيير هذه المشاريع بالكيفيَّة المُثلَى فقط، بل -قبل ذلك- لأجْلِ تحديد طبيعتها الحقيقة والطريقة المُثلَى لتنظيمها والتعامل معها بما يُحقِّق مصلحة المملكة وأهدافها التنموية الطموحة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال