الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
ننظر حولنا من بعد الأزمة المالية العالمية في 2008 فنجد أن دائرة من هم أقرب إلى خط الفقر أو من هم بالكاد يحتفظون بموطئ قدم في مصاف الطبقة الوسطى تكبر لتشمل حتى ذوي التعليم والوظائف الجيدة. يحدث كل ذلك في حين نقرأ عن اختراقات الأسواق المالية لمستويات قياسية جديدة بوتيرة شبه أسبوعية أو تعافي صاروخي حتى بعد انهيارات كما شهدنا الأسبوع الماضي نتيجة تفشي فيروز كورونا على نطاق أكبر من المتوقع.
هكذا الحال, فقد سجل مؤشر الداوجونز أكبر انخفاض أسبوعي وأعلى أرتداد يومي في 3 جلسات متتالية بين يومي27 فبراير و 3 مارس 2020. يأتي هذا كمؤشر لوجود سيولة ضخمة في انتظار أي تصحيح في الأسواق للدخول للشراء بقوة. الشاهد أن أسواق الأسهم الأمريكية سجلت 117 مستوى قياسي في عهد الرئيس أوباما و120 في عهد الرئيس ترمب. سبعة مستويات قياسية منها في 2020 وهو العام الذى بدأ بأحداث شكلت تحديات جسيمة للأسواق المالية أهمها اغتيال قاسم سليماني وتفشي فيروس الكورونا الذي شل لحد كبير الحركة الاقتصادية في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
هذا التناقض بين الحالة المالية العسيرة لعموم الناس والأداء الأكثر من ممتاز للأسواق المالية نتج عنه زيادة غير مسبوقة في الفروقات الطبقية وشعور لدى الكثيرين بغياب العدالة الاجتماعية في عالم يزداد فيه الأغنياء غنى ويزداد الفقراء فقرا”.
فهم أسباب التناقض بين أداء اقتصاد الأفراد مقارنة بالأسواق المالية هو أول وأهم خطوة للبدء بوضع خطة دفاع شخصية وأسرية بل حتى وطنية للحول دون السقوط داخل دوامة هشاشة الحالة المالية. هنا نحاول حصر الأسباب في ثلاث متغيرات تحدث في العالم اليوم.
تغيير دور البنوك المركزية
الأزمة المالية العالمية أجبرت البنوك المركزية على تغيير دورها من ضابط ايقاع نسب التضخم والبطالة في الاقتصاد, إلى صمام أمان ضد التباطؤ الاقتصادي ومحفز للحركة الاقتصادية بشكل عام. وجدت البنوك المركزية نفسها مضطرة لتبني خطط تحفيز كمي لضعف قدرة الكثير من الحكومات على استخدام السياسات المالية بشكل تحفيزي نتيجة الضغوطات على الموازنات العامة للدول. فبدأت بدورها بضخ ترليونات من الدولارات في شرايين أسواق المال العالمية لدعم قيم أصول مالية تتكون من أسهم, سندات, ومشتقات ومنتجات مالية مركبة, جميعها تساهم في تحديد الملاءة المالية للمؤسسات والبنوك التي تشكل الأعمدة الرئيسة لنظام المالي العالمي.
السيولة الجديدة كانت بمثابة الموج العالي الذي يرفع كل القوارب في الأسواق المالية. بدأت أسعار الأصول المالية في الارتفاع حتي التي كانت تاريخيا” معروفة بعلاقتها العكسية, مثل الأسهم والسندات. النتيجة؟ زيادة في الميزانية العمومية للبنك الفيدرالي الأمريكي من أقل من تريليون دولار قبل عام 2008 إلى 4.5 تريليون حاليا”. ضخ 3 البنك المركزي الأوربي لسيولة تقدر ب 2.6 ترليون يورو فقك في أربع سنوات بين العام 2015 حتى 2018 واستحواذ بنك اليابان المركزي على 77.5 في المئة من إجمالي الصناديق المتداولة في البورصات نتيجة ضخ البنك سيولة تقدر ب 23 ترليون ين ياباني منذ العام 2013 حتى نهاية عام 2018.
مع ارتفاع مستويات الأصول المالية, بطبيعة الحال ارتفعت الملاءة المالية للأشخاص الذين يملكون تلك الأصول وهم في الأغلب يكونوا من الطبقة الأعلى من المتوسطة وكانت النتيجة أن الأغنياء أصحاب الأسهم والسندات زادت ثروتهم بشكل غير مسبوق.
أسعار الفائدة وعوائد السندات المتدنية
وصل حجم السندات السيادية ذات العوائد السالبة عالميا” حاليا” الى مستويات غير مسبوقة حيث يتراوح ما بين ال 14 الى 17 تريليون دولار وحجم السندات ذات العوائد الصفرية يفوق ذلك من ناحية الحجم وفترات الأستحقاق. على سبيل المثال, عوائد السندات السويسرية لفترة استحقاق 50 عاما” صفر في المئة.
أهمية ذلك تكمن في أن معظم من هم في الطبقة الوسطى والطبقة الفقيرة في الغالب لا يملكون أي مدخرات مالية تذكر, واذا هناك استثناءات, فلن تعود مدخراتهم بفوائد مالية تساعد في تحسين ملاءتهم المالية نتيجة أدخارهم في أدوات التوفير التقليدية المتمثلة في السندات أو حسابات التوفير ذات العوائد السالبة أو الصفرية.
في المقابل, شجعت أسعار الفائدة المتدنية الشركات على الاقتراض للأستفادة من تكلفة الاقتراض الرخيصة واستخدام تلك القروض في شراء أسهمها مما ضاعف قوة دفع أسعار الأسهم للأعلى. يقدر حجم مشتريات الشركات لأسهمها في عام 2019 ب 736 مليار دولار ودفعت أرباح لملاك الأسهم تقدر ب 485.5 مليار دولار بحسب التقارير الصادرة من الداوجونز للمؤشرات.
الجدير بالاهتمام أنه منذ العام 1991 استحوذ أغنى 1% من المجتمع في أمريكا على 1.2 تريليون دولار من ملكية الشركات عن طريق شراء الأسهم في نفس الوقت الذي باع أفقر 90% من المجتمع حوالي 1 تريليون دولار من الأسهم وبالتالي لم يستفيدوا لا من ارتفاع أسعار الأسهم ولا من أرباح الشركات بطبيعة الحال لتخليهم عن ملكية الأسهم.
الروبوت والذكاء الاصطناعي
20 مليون وظيفة في المجال الصناعي ستلغى لأن الماكينات والروبوتات الآلية ستقوم بوظائف الإنسان وبشكل أكثر دودة وكفاءة بحسب تقرير للبي بي سي. وبحسب دار الأبحاث أكسفورد أكنوميكس, أن زيادة 30% في استخدام الروبوتات ستضيف 5 تريليون دولار للناتج المحلي العالمي مما سيعزز من قيمة أسهم الشركات وربحيتها الذي سينتج عنه تعاظم ثروة مالكي الأسهم دون غيرهم.
السيارات الذاتية القيادة ستجعل من 70 مليون موظف في مجال القيادة حول العالم دون عمل. ينطبق ذلك على المصانع والمطاعم أيضا” حيث يكلف الروبوت التشغيلي حوالي 30 – 60 الف دولار ويعمل مدة 10 سنوات بدون أن يكل أو يمل. أي بتكلفة 3-6 ألف دولار فقط سنويا”.
السؤال, أين ستذهب كل هذه الأيادي العاملة المتوقع تسريحها؟ من المؤكد فقدان كل تلك الوظائف سيؤدي بإعادة تصنيف الكثير من العوائل وتراجعهم اجتماعيا” من الطبقة الوسطى الى الطبقة الفقيرة ولن يقتصر ذلك على مناطق جغرافية بعينها.
هذه العوامل الثلاث ستفاقم الوضع الهش لكثير من الأسر والأفراد, بالإضافة لعوامل أخرى موجودة قبل الأزمة العالمية لا تقل تأثيرا” وأهمها عوامل الديمغرافيا, العولمة, والرقمنة التي وسعت الهوة بين الأميين رقميا” وأصحاب المهارات الرقمية.
ما هي الحلول؟
ليس هناك خيارات سحرية لتغيير الأوضاع عالميا” لجعل العالم أكثر عدلا” من الناحية المالية. لكن من أكثر الحلول فعالية” وفي متناول غالبية من هم في الطبقة الوسطى والفقيرة هو التعليم بجميع أنواعه. زيادة المهارات الفردية وبناء القدرات تزيد من قدرة الأشخاص على الصمود ومقاومة جاذبية دوامة عدم العدالة الأجتماعية التي حتما” سترمي بملايين سنويا الى طبقات الدخل السفلى.
حل آخر لمن استطاع إليه سبيلا هو تغيير نوعية وتركيبة الدخل حيث يكون جزء منه مستمد من عوائد الاستثمار الرأسمالي والا يكون بأكمله دخل وظيفي. أخيرا”, يجب تقليل الاعتماد على الحكومات لأن وضعها المالي لا يبشر بأنها ستكون سند اجتماعي مضمون في المستقبل.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال