الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
بادِئَ ذِي بَدْءٍ يقتصر مفهوم الليبرالية في الاقتصاد على اقتصاد عدم التدخل والسوق الحرة ودعم التجارة الحرة والتنافس ولا توجد في اعتقادي أي تفسيرات فلسفية أخرى خارج هذا السياق فمنذ نشأتها على يد آدم سميث فيما يُسمى بالليبرالية الكلاسيكية الاقتصادية ثم المدارس اللاحقة والتي أتت كإمتداد لها لايزال النظام الاقتصادي الليبرالي ضمن هذا الإطار العلمي والعملي ، تقوم منهجية الليبرالية الاقتصادية كما يقول آدم سميث على أساس ( دعه يعمل دعه يمر) مؤكدا على أنه لا يوجد أي سبب يدفع الحكومات للتدخل في الاقتصاد وأنه يجب على جميع الافراد أن يتصرفوا وفقًا لمصلحتهم الذاتية فالفرد هو أفضل من يعرفها.
يبدو أن أروقة جامعات العالم لاتزال تكرر الأسس الاقتصادية التي بُني عليها الفكر الاقتصادي منذ الحقبة الماضية حيث لم تظهر الى السطح رؤى جديدة تغير من المفاهيم الاقتصادية السابقة على نحو جديد ، مغاير ومستقل ، ويمكن القول بأن ما يطرح ليس الا محاولة لتطوير لتلك المدارس الاقتصادية السابقة ولم يخرج بعد من خارج عباءة تلك المدارس أي فكر لنظام اقتصادي جديد .
الاقتصاد .. علم حساس لأنه يعتمد على الأرقام ودلالاتها التي لا تحتمل سوى الربح أو الخسارة وهذا بحد ذاته كفيل بالاستناد على السياقات الفكرية السابقة لأنها على الأقل قد ضمنت نجاح هذه المعادلة الصعبة فيما مضى ولا تقبل بأي حال أي نوع من المغامرة مستقبلا لنظام وليد هذا اذا ما اخذنا في الاعتبار قوانين العرض والطلب التي يصعب مع واقعها التحييد او عزلها عن أي نظرية قادمة.
النظام الاقتصادي الليبرالي Liberal Global Economy حسب ما يصنفه المفكرون المعاصرون هو في الواقع الأرض الصلبة التي يسير عليها الاقتصاد اليوم بكافة مكوناته والتي تعتمد وبما لا يدع مجالا للشك على الحرية الاقتصادية والاسواق التي تعمل بكامل أطرافها دون تدخل حيث تُعرّف الليبرالية الاقتصادية بأنها السياسة الاقتصادية كفلسفة تدعم الاقتصاد بعدم التدخل ولا يمكن فصلها عن الحرية الاقتصادية وصولاً الى السوق الحر والتنافس إذْ يرى الكثير من المفكرين المعاصرين بأنه وبعد مرور 70 عامًا عليها بأن هناك مخاوف حول مستقبلها وخاصة في مكونات الأسواق المفتوحة والاتفاقيات الأمنية المشتركة والحمائية والحروب التجارية وعادة ما يطرح السؤال الكبير هل هناك خيار بديل لاستبداله بنظام مختلف جذريا عن الحالي ؟
لطالما يميل منظرو الفكر الكلاسيكي أمثال آدم سميث وديفيد ريكاردو وكارل دويتش وإرنست هاس الى دمج موضوعات الدول والأسواق في منظور ليبرالي بالنظام الدولي وربط الليبرالية بالاقتصاد السياسي هذا النتاج أدى أيضا الى هيمنة المنظورات الليبرالية على كافة الاتجاهات الاقتصادية المعاصرة بما فيها البعد الاكاديمي والإعلامي والمؤسسات الدولية والأسواق والعلاقات التجارية المختلفة وغيرها كما انهم يعتزون كثيرا بتحقيق الانضباط الاقتصادي والسلاسة الملموسة فعليا ، ووفقاً لهذا الفكر فإنه حتى اليوم ليس من غير المألوف والواقعية إيجاد فكر منهجي ونظري جديد في المجال الاقتصادي حتى وان كان على سبيل التجريب والفرضيات الممكنة هناك أيضا بعد آخر اكثر أهمية ذلك الذي يتعلق بنظرية المعرفة أو الاقتصاد المعرفي والتي أضحت العلامة الفارقة في الاقتصاد الليبرالي ومعه لا يمكن فرض نظريات بديلة حيث انها تتشابك مع هوية الفكر وعقلانيته التي هي أساس المعرفة الحديثة وبناءها مثل من رأس المال ، العمل ، التنافسية ، الأسواق الحرة ، المهارات وكافة مكونات عناصر الإنتاج ومتطلباتها التي تعتمد على قوانين العرض والطلب والموضوعية وتناغم المصالح والاستقرار الاقتصادي.
أن وجهات نظر الليبرالية المعاصرة حول الاقتصاد السياسي العالمي فيما يسمى بالمدرسة الأمريكية والتي تمارس ادبيات سياسة الاقتصاد المفتوح موجهة وبقوة نحو العديد من المجالات المتنوعة مثل السياسة النقدية وتشكيل المنظمات الاقتصادية الدولية و العمل المعياري الصريح في تقييم السياسة ووصفها للنظام السياسي والاقتصادي العالمي للتعبير بشكل كامل عن القيم والأهداف الليبرالية هذا البعد هو روحها وادبياتها كيفما يكون والتي تُسيّر ميكنة الاقتصاد العالمي وبالرغم من ظهور اعمال وأفكار اقتصادية جديدة محدودة الا انها في الواقع لاتزال تقبع تحت وطأة الكلاسيكية الليبرالية حتى وان اخذت ابعادا مختلفة ومن ذلك ما نُشرت نماذج اقتصادية جديدة في مجال التجارة الدولية والسياسة التجارية والأنماط العالمية لتحرير التجارة وحمايتها والآثار التوزيعية وتنقل رأس المال الدولي والأنماط الأكبر للتكامل المالي العالمي والسلوك وسيكولوجية اتخاذ القرار العقلاني بيد أن كل ما سبق حتى اللحظة هي استكمال للنظرية الاقتصادية (الليبرالية).
لقد اعتمدت ادبيات الفلسفة الأخلاقية الليبرالية في الاقتصاد على الرياضيات والاحصاء والبيانات الكمية إضافة الى الأساس النظري وبالتالي حرص لاحقا النيوليبراليين وبشكل خاص على التخلص من أي ارتباط بالإيديولوجية التي توجه الاقتصاد – كما تحدثت عن ذلك في مقال سابق – والحقيقة أن السنوات السبعون الماضية التي تمحور داخلها النظام الاقتصادي العالمي قد شهدت نمواً غير مسبوق في الرخاء وفوائد عدة على جانبي التحسن في ظروف المعيشة والصحة العامة وتقليص حدة الفقر والحرية الاقتصادية ناهيك عن ميكنتها التي خفضت نسب الأمية واطلقت العنان للحرية الاقتصادية ، مع الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والسلام بين القوى العظمى ، نعم يواجه النظام الاقتصادي الليبرالي اليوم العديد من التحديات والتغيرات ولكن من المؤكد انه قادر على الصمود وتجاوز الازمات لاستناده على العديد من القيم والقواعد الأساسية للاقتصاد التي تنطلق من مبدأ الحرية في النشاط إضافة الى الانسجام بين المصالح الخاصة والمصالح العامة ، لكن بشكل عام جاءت هذه المدارس لتطوير المنهج الليبرالي وحمايته من نفسه وليس لمواجهته بشكل جذري وحاسم فقد كان هدفها الأساسي التقليل قدر الإمكان من المشاكل التي نشأت عن تطبيقه وأهمها مشاكل الفقر والبطالة الذي نتج عن سوء توزيع الثروة بسبب رفض تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي فضلا عن سيطرة النزعة البشرية على القواعد المنظمة للسوق بحجة حرية الفرد المطلقة .
مجمل القول : ما تكاد تتلاشى مشكلة اقتصادية ما حتى تظهر على السطح مشكلة أخرى .. التحديات الاقتصادية باتت معقدة وهذا نتاج طبيعي لعصر اتسم بالسرعة والاقتراب اكثر من بعضه البعض ، الاقتصاد هو الآخر لا ينكفئ عن اي مجال آخر انه روح الحياة العصرية ، وفي المقابل تبق الأسئلة الكبرى الأهم : هل يتغلب العالم على كورونا الذي ضرب سلاسل التصنيع والتوريد ؟ هل سينتهي الصراع التجاري بين الصين وأمريكا وما هي التداعيات التي ستخلفها البريكست Brexit وأين وصلت قضايا المناخ والبيئة وماذا اعد العالم لمشكلة الفقر المدقع في بعض الدول النامية ؟
اسئلة كثيرة وحائرة يصعب التنبؤ بنتائجها المتوقعة والفواتير المُستحقة ضبابية ومتباينة وبعضها باهظة ! لكن يبق الأمل معقود بتحقيق بوادر وانفراجات وتجاوز اي تحديات حالية او مستقبلية ، والأهم ان الكاسب الأكبر هو ذلك الذي يتعامل مع اي مشكلة بإدارة اقتصادية واقعية وعملية ويستعد مسبقاً بخطط منهجية ، وفي كل الاحوال الأزمات الاقتصادية لا تولد من رحم نظريات المؤامرة هي نتاج لحراك غير احترازي فحسب ومن هنا تباينت الآراء الفكرية حول الاقتصاد الليبرالي ونتائجه الملموس بين التأييد والنقد ولن يغامر العالم بنظرية جديدة يعلم ان تبعاتها العملية التي ستكون تحت التجريب ستربك أي حراك اقتصادي .
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال