الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
يعتبر (التقادم) من الأمور المؤثرة على انقضاء الالتزام بشكل عام، وقد نصت عدد من الأنظمة واللوائح في المملكة العربية السعودية على تحديد مدد معينة لا تسمع بعدها بعض الدعاوى، بمعنى أنه يجوز لصاحب المصلحة أن يتقدم بدعواه خلال هذه المدة، فإن تأخر في تقديم دعواه حتى انقضت هذه المدة؛ فإن دعواه في هذه الحال لا تُسمع، وهناك استثناء -في بعض الأحوال- يُجيز سماع الدعوى بشرط أن يتقدم المدعي بعذر تقبله الجهة القضائية التي تنظر النزاع.
و يتبادر إلى الذهن سؤال بشأن هذه المدة المحددة في النظام التي لا تسمع الدعوى بعدها، هل هي مستمرة لا يقطعها أي شيء مطلقاً؟ أم أن هناك أسباباً تؤثر عليها؟ وما حجم ذلك الأثر؟
وجواباً على هذا السؤال أقول: إن من المستقر قانوناً أن (مدة التقادم) مستمرة من حيث الأصل إلا أن هناك بعض الأوصاف أو الأسباب القانونية التي قد تعرض لهذه المدة فتؤدي إلى التأثير عليها، ويتفاوت ذلك التأثير بحسب نوع ذلك السبب:
فهناك أسباب تؤدي إلى (انقطاع التقادم) وهو يعني: حصول سبب من الأسباب القانونية المعتبرة أثناء سريان مدة التقادم، فيؤدي إلى إلغاء كل المدة التي انقضت قبل حصول هذا السبب وعدم احتسابها، ويبدأ احتساب أجل جديد للتقادم من تاريخ حصول هذا السبب، وذلك مثل: المطالبة القضائية، فإن إقامة الدعوى من الدائن، تؤدي إلى انقطاع التقادم. في حين أن هناك أسباباً أخرى تؤدي إلى (وقف التقادم) والذي يعني: حصول سبب من الأسباب القانونية أثناء مدة التقادم، ويؤدي إلى عدم احتساب المدة التي استمر فيها وقوع ذلك السبب ضمن مدة التقادم، مع احتساب المدة السابقة واللاحقة. وبذلك يتبين أن (وقف التقادم) كأنه تعليق مؤقت لمدة التقادم، في حين أن (انقطاع التقادم) يعني إلغاء كل المدة الماضية والبدء في احتساب مدة تقادم جديدة.
وينص العديد من شرّاح القانون أن هناك أسباباً شخصية ومادية تؤدي إلى (وقف التقادم)، والظروف المادية تعني أن هذا السبب لا يرجع إلى وصف في شخص أحد الطرفين، وإنما إلى ظرف مادي، وذلك كالقوة القاهرة، والتي تمنع صاحب المصلحة من المطالبة بحقه أمام المحكمة، بسبب توقف المحاكم لمباشرة أعمالها، لقيام حرب أو أي سبب من الأسباب.
وتأسيساً على ذلك يمكن القول بأن ما يمر به العالم اليوم من جائحة فيروس كورونا هو أحد الظروف المادية التي من شأنها (وقف التقادم)، وبالتي فلا تحتسب المدة التي تأثر بها الأطراف بسبب الإجراءات الاحترازية التي اتخذت من الجهات المختصة للحماية من هذا الفيروس ضمن مدة التقادم. ومن المصادفات أنني عثرت على رأي قديم جداً لمجلس الدولة في فرنسا، حيث صدر في 27 يناير 1814م، وتضمن التأكيد على أن الوباء يوقف التقادم ما دام أنه يترتب عليه استحالة مطلقة للمطالبة بالحق، (وهذه فائدة مستفادة من بحث نفيس للأستاذ زكي خير الأبوتيجي بك بعنوان: وقف التقادم للحوادث القهرية والظروف المعجزة)، وهذا الرأي يؤكد أن الوباء يوقف التقادم، بشرط أن يؤدي إلى الاستحالة المطلقة للمطالبة بالحق، وفي واقعنا المعاصر، وإن كانت المطالبة بالحقوق متيسرة من خلال الوسائل الالكترونية؛ إلا انني أعتقد أن تقديم الدعوى أو المطالبة يتطلب القيام بالعديد من الأمور ومن الاستشارات القانونية التي قد تتعذر على غالب الناس في ظل هذه الظروف؛ وبالتالي فإن لكل صاحب مصلحة التمسك بوقف سريان التقادم للمدة التي استمر تأثير جائحة فيروس كرونا فيها.
وتأسيساً على ما تقرر بشأن (التقادم)، فإني أعتقد بأن جائحة فيروس كرونا تعتبر من الأعذار المقبولة للجهات القضائية في المملكة، وذلك حينما ينص النظام على تحديد مدة معينة لا تسمع الدعوى بعدها إلا بعذر تقبله تلك الجهة القضائية، وأما إن لم ينص المنظم على جواز سماع الدعوى في حال التقدم بعذر مقبول؛ فإني أعتقد أن الدفع بهذه الجائحة في التأخير لن يكون مقبولاً لتلك الجهات القضائية. والله أعلم.
حمى الله بلادنا من شرور هذه الجائحة، وعجّل بالفرج لهذه الأزمة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال