الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إن لم تكن الأولى، تعد جائحة كورونا من أبرز الأزمات وأكثرها تعقيدا فيما مر على العالم المعاصر وربما في تاريخه. تبرز تعقيداتها في أنها لم تكن أزمة طبية فحسب ، بل شلل كامل أصاب كل الأنشطة، الاقتصادية والإجتماعية والحياة العامة وأنشطة السفر والتعليم. تأثرت منها الحكومات والمنظمات والأفراد على كل الأصعدة والأفراد. ويبرز التحدي الأكبر أنها فاجأت الجميع في مرحلة زمنية أصبح العالم كتلة واحدة وأصبحت الدول تعتمد على بعضها البعض بترابطات تجارية وتقنية لتحل كورونا وتعطل هذه الترابطات لتجعل كل دولة كيانا منفصلا حتى عن إقليمه ، بل عزلت حتى مدن الدولة الواحدة.
هذه التقاطعات صعبت من مهام الحكومات في إدارة الأزمة ، فهي – أي الحكومات – لا تتعامل مع أزمة جائحة فحسب ، ولا تدير أزمة منفصلة ، بل تدير و تواجه الإنعكاسات الإقتصادية و تدير معها المجتمعات والأفراد ، وتدير أسواقها وسلاسل إمدادها ، ولسنتشعر حجم التعقيد في ضرورة عزل القوى العاملة وضرورة إمداد وإنعاش الأسواق في ذات الوقت . إدارة زمة في إتجاهات متضادة وبهذا الحجم يعطي مؤشرا حقيقيا على إستقرار الدولة من عدمه ، ومع أهمية وضع الخطط الملائمة لإدارة الأزمة إلا إنها لن تكون فاعلة ما لم ترتكز على بيئة مؤسسية مستقرة أكتسبت إستقرارها من خطط عملية مسبقة عبرمراحل زمنية تبنتها الحكومات ، لتضع كورونا هذه الخطط على المحك وأمام الإختبار الصعب.
لنتجاوز الخطط والإستراتيجيات الممكنة لإدارة الأزمة إلى العوامل الرئيسية التي تمكن الدولة من وضع خطتها وفق معطيات واقعية تمكنها من إنفاذ هذه الخطة وتجاوز الأزمة بأقل الخسائر والأضرار. المعطيات التي تمكن الدولة من إدارة أزمة بهذا الحجم تكمن في تحقق ثلاث معطيات رئيسية تصل بها للاستقرار والإطمئنان على الخروج من عنق الزجاجة.
من أهم هذه المعطيات وجود طاقات بشرية وطنية بحجم الأزمة . هذه الطاقات تتمثل من الفرق الطبية والأمنية وفرق العمل التنظيمي ومؤسسات وطنية ذات كفاءة عالية يعتمد عليها . وجود هذه الطاقات البشرية والمؤسسية لن يكون بين عشية وضحاها، ولن يكون بقرار ضمن قرارت الأزمة. فهو يعتمد على ما تبنته الدولة من خطط التوطين على مستوى الموارد البشرية وقطاعات الأعمال تضعه في موقف الإكتفاء والإستقلال في مواردها التي تعتمد عليها في مواجهة مثل هذه الأزمات، فلا تكون تحت ضغط أي ظرف . وجود كادر طبي وطني مؤهل في هذه الأزمة هو بحد ذاته نجاح للدولة ومؤشر من مؤشرات الاستقرار، لا سيما أن الفرق الطبية هي أهم أسلحة المواجهة في وقت تتشبث كل دولة بما لديها.
إضافة للطاقات البشرية الوطنية تبرز أهمية الاكتفاء الذاتي للسلع الأساسية أو إمكانية توفيرها في ظروف تعطلت معها كل سبل الشحن أو حتى إمكانية الإستيراد في ظل شح المخزون العالمي مع احتفاظ الدول بمنتوجها لإحتياجها الداخلي. وهذا ما أشار له معالي وزير الصحة عندما ذكر أن المستلزمات الطبية قد لا تكون متوفرة حتى بالأسواق العالمية. الدول الأكثر إستقرارا والأكثر إستعدادا في مواجهة الأزمة هي تلك التي تعتمد على إنتاجها ومخزونها من السلع الأساسية ، أو لديها القدرة على توفيرها ، لا سيما الغذائية والطبية.
مع توفر الطاقات البشرية واستقرار الأسواق تبرز أهمية الإحتياطات النقدية. معظم الدول – إما لعجز إقتصادي أو لسياسات معينة – تدير مواردها المالية وفق خطط سنوية وربما مرحلية، بما لا يدع شيئا لمثل هذه الأزمة التي لم تكن بالحسبان .وجود الاحتياطات النقدية المرصودة ضمن استقطاعات مالية تراكمية تمكن الدولة من التعامل مع الأزمة ، وتمكنها من تقليص وتجاوز آثارها الإقتصادية ، و تسحمه لها بترسية العقود المفاجئة التي فرضتها عليها الأزمة مثل إنشاء المستشفيات الميدانية ، والمساكن ومقرات الحجر، وإنشاء أو تعزيز خطوط الإنتاج ، وتوفير الأدوات والمستلزمات الطبية ، ودعم قطاعات الأعمال المتأثرة والأفراد المتأثرين.
الإجراءات التي اتخذتها المملكة والخطط التي تبنتها في إدارة الأزمة حظيت باحترام كبير على المستويين المحلي والدولي، وأصبحت مثالا يحتذى ، قلصت من آثار الأزمة وجعتها في الحدود الدنيا. إلا إن هذه الإجراءات وما صاحبها من نجاح لا يجب أن تسحب الأضواء من العوامل الرئيسية التي حققت لها النجاح وهي سياسة مالية مستقرة ، وسياسات توطين على مستوى الموارد البشرية وقطاعات الأعمال. هذه الركائز هي نتاج خطط زمنية تبنتها الدولة عبر مراحل زمنية و برهنت على نجاحها في الاختبار الصعب.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال