الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
عندما يتراءى لي صورة ذلك التمثال الضخم في ساحة مدينة روتردام التي تقع في غرب هولندا، والتي دمرتها الحرب العالمية الثانية تدميرا كاملا من قبل الألمان ثم إعادة بنائها . هذا التمثال الضخم عبارة عن هيكل برونزي مهيب يصور شخصية بشرية مليئة بالفراغ الكبير في صدره و أجزاؤه الغير مترابطة، فالساعد لم يستقر على المفصل وهكذا السيقان ، و مفاصل الأقدام وجميع الأصابع مفصولة عن المفاصل ، وكذلك الرقبة والرأس . التمثال يمثل الصدمة الجسدية والنفسية التي عاشتها المدينة. فالتمثال يبهرك ضخامته ولكن عندما تتمعن فيه تخاف من انهياره . هكذا أفكر في الأسواق العالمية وتقلباتها.
إن البيئة الاستثمارية اليوم ربما تكون مثل صورة هذا التمثال ، نظام عملاق، مؤسساته كثيرة و متنوعة لكل منها دور محدد تشكل في مجموعها العام آلية الأسواق المالية . منتجات كثيرة تتلائم مع كل الأهداف والأنماط الاستثمارية سواء كان رأس مال مغامرا أو محافظا. كما ابتكرت تلك الأسواق آليات لتجزئة المنتج الاستثماري على أساس المخاطر و العوائد و أعطت القدرة على التحكم بهما من خلال أسواقًا أنشئت لتداول المخاطر عن طريق عقود الخيارات (options) و العقود المستقبلية (Future).
كما أصبح بمقدور المستثمرين الاستفادة من توقعاتهم من خلال التداول بعقود المشتقات (derivatives)فاصبح بمقدورهم بيع ما لا يملكون ، فإذا ما كانت لديهم نظرة تشاؤمية باعوا على المكشوف (short) ويمكنهم الشراء بالهامش أو شراء عقود الخيارات إذا كانت نظرتهم تفاؤلية .
وبالرغم من ضخامة هذا النظام و تطوره يخيل إليك أنه سينهار في أي لحظة ولعل نسيم طالب في كتابه البجعة السوداء (Black swan ) ومحمد العريان في كتابه عندما تتصادم الأسواق يعكس هذا المفهوم. فالأزمات المالية التي تعصف بالدول من فترة إلى أخرى ماهي إلا دلائل على قابلية النظام على الانهيار.
ففي سبتمبر 2008م ، تلك الأزمة المالية التي عصفت بالدول المتقدمة بسبب قروض الرهن العقارية أدت إلى :
⁃ انخفاض أسواق الأسهم بحوالي 50% في مدة قصيرة.
⁃ شح في السيولة و ارتفاع سعر الإقراض بين البنوك.
⁃ ارتفاع مستوى البطالة إلى نسب غير مسبوقة.
⁃ انهيار بنوك كبيرة مثل ليمان براذر .
مما استدعا جورج سورس أن يعلق على هذه الكارثة بالقول ” إنهار النظام ووضع تحت الأجهزة الصناعية التي أبقته حيا” كما استدعت رؤساء دول كبرى مثل أمريكا والصين والبرازيل للمراجعة الشاملة للنظام الرأسمالي والنظام النقدي واضطرارها إلى التدخل بأكبر وتيرة من التسريع الكمي QE لمساندة البنوك .
ومازالت الأزمات تتكرر وكأن التاريخ يعيد نفسه. ففي بداية القرن الجديد في عام 2020م ، يتعرض الاقتصاد إلى هزة عنيفة مرة أخرى نتيجة تفشي وباء كورونا مما أدى في خلال شهر واحد إلى :
⁃ تهاوي أسواق الأسهم و فقدان من قيمتها بحوالي 30% في شهر .
⁃ انخفاض سعر البترول بوتيرة سريعة ليفقد أكثر من 50% من قيمته.
⁃ تسجل الصين نموا سالبا يتجاوز 5% في الربع الأول .
⁃ ارتفاع البطالة بشكل غير مسبوق في أمريكا حتى فقد 16 مليون وظائفهم في أمريكا حسب صحيفة The Guardian ( international edition) في 9/4/2020م .
⁃ ارتفاع التذبذبات في أسعار الأصول حتى سجل مؤشر VIS قراءة أعلى من مستواه مقارنة بالأزمة المالية السابقة.
مما استدعى الحكومات أن تستجيب لهذه التحديات بسرعة كبيرة لتفادي السقوط من خلال السياسات النقدية والمالية ، فتم تخفيض سعر الفائدة في أمريكا إلى مستوى الصفر وإعادة تفعيل برنامج التسريع الكمي من خلال سياسة السوق المفتوح بشكل غير مسبوق ،واتباع سياسة مالية توسعية.
إن الأزمات المتتابعة التي يتعرض لها النظام الرأسمالي و قوة تأثير هذه الأزمات على المؤشرات الاقتصادية والأسواق المالية كلها دلائل على هشاشة النظام الرأسمالي .
إن النظام الرأسمالي الذي تعتمد عليه الأسواق لتوزيع الموارد فشل في تحقيق أهم أهدافه المتمثلة في تحسين مستوى الدخل وخلق الفرص المتساوية وتوزيع الموارد بكفاءة تؤدي إلى تحسين نسبة النمو الاقتصادي وجودته وديمومته.
إن آلية السوق تعمل وفق قوانين وإجراءات ونظم يتم وضعها من أصحاب النفوذ المالية والسياسية الذين يهتمون بمصالحهم بالدرجة الأولى بدلا من مصالح المجتمع بكل عناصره.
في الكتاب The price of inequality لمؤلفه (Joseph E. Stiglitz) وهو حاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد -أوضح فيه بشكل رائع الترابط بين التفاوت الطبقي وانخفاض نسبة النمو الاقتصادي, كما أرجع سبب الأزمات الاقتصادية إلى التفاوت الطبقي وأوضح بشكل واضح كيف ساعدت آلية السوق على توزيع الثروة من الأدنى غلى الأعلى ، مما ساهم في تركيز الثروات بحيث تضاعفت دخول ثروات أغنى 1% من السكان لتشكل أكثر من 22% من مجموع الدخل القومي الأمريكي و ليستحوذوا على 93% من نسبة النمو الاقتصادي. وعلى سبيل المثال بلغت ثروة بيل غيت ووران بافت (بنهاية 2019م) وفقا لمؤشر Bloomberg للأغنياء حوالي 202 مليار دولار .
ففي الختام ،الدروس المستفادة كالتالي:
-إن عملية التخطيط الاقتصادي يجب أن يركز على توسيع الطبقة المتوسطة من خلال توفير الفرص وتمكينهم من استغلالها .إن توسيع الطبقة المتوسطة يخلق السلامة المالية بين المستهلكين والمستثمرين من خلال زيادة الاستهلاك مما تدفع نقطة التعادل عند مستوى التشغيل الكامل للاقتصاد بحيث يعمل بكامل طاقاته ، كما يعمل على التقليل من حدوث الأزمات الاقتصادية في المستقبل بسبب سعة القاعدة الإنتاجية والاستهلاكية وتنوعها. في اعتقادي إن مؤشرات نمو الطبقة المتوسطة يجب أن تكون من ضمن المؤشرات المهمة لقياس النمو الاقتصادي .
– في ظل التحولات البنيوية وارتفاع حجم الديون فان قابلية حدوث انتكاسات في الأسواق المالية أمرا قابل للحدوث مما يجعل البيئة الاستثمارية بيئة شديدة التعقيد مما يستلزم منهجية واضحة لإدارة المخاطر تهدف إلى تقليل النتائج الطرفية مقارنة بالأهداف المطلوب تحقيقها .
إن الأزمة المالية الحالية لن تكون بالتأكيد آخر الأزمات ولكن ما يقلق هو حجم التشوهات التي تتركها على الاقتصاد ومن أبرزها زيادة حجم الديون واتساع الفرق بين الطبقات الاقتصادية وتآكل الطبقة الوسطى بشكل متسارع مما يجعل النظام الرأسمالي يشبه إلى حد بعيد التمثال المنصوب في ساحة روتردام.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال