الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
أهمية الوسائل البديلة لحل وتسوية المنازعات عن بعد لا تقتصر على أوقات تعذر إقامة جلسات الاستماع التقليدية في وقت الأزمات كأزمة جائحة كورونا؛ وإنما يبرز شأنها في حال ضآلة المبالغ المادية المتنازع عليها، أو التعويضات المطالب بها بين الأطراف المتنازعة، فقد يؤدي غياب خيار التسوية عن بعد وتكلفتها المعقولة إلى تقاعس أحد أطراف المنازعة عن المطالبة بحقوقه.
خيارات متنوعة متاحة للخصوم فيما يتصل بالوسائل البديلة لحل المنازعات عن بعد، ولنأخذ بعض الأمثلة منها:
الوساطة Mediation والتوفيق Conciliation
يستند الفرق الأساسي بين الوساطة والتوفيق إلى الدور الذي يقوم به الطرف الثالث (الوسيط) الذي يتم اختياره من قِبل الأطراف التي تسعى إلى التسوية، وبتوافق الآراء؛ ففي الوساطة يكون الوسيط طرفًا يساعد الأطراف في التوصل إلى الاتفاق، أما الموفق -في التوفيق- أشبه بمتدخل يقدم حلولًا محتملة للأطراف المعنية لتسوية المنازعات فيما بينهم، ومن هنا ففي الوساطة، يسهل الطرف الثالث للأطراف المتنازعة الوصول إلى تسوية من خلال الأطراف أنفسهم؛ بينما في التوفيق، يكون الطرف الثالث أكثر توجيهًا، كما أن بعض القوانين لا تميز بين التوفيق والوساطة ولا تفرق بينهما.
أما التحكيم وهو وسيلة وطريق خاص للفصل في المنازعات بين طرفين أو أكثر، يخوِّل بمقتضاه أطراف النزاع مهمة الفصل بحكم ملزم إلى محكمين يختارونهم بمحض إرادتهم بدلًا من الطريق القضائي (المحكمة المختصة). ففي التحكيم عن بعد يتم الاعتماد على شبكة الإنترنت، فيكتسب التحكيم صفة الإلكترونية من الطريقة التي يتم بها، وفق قواعد خاصة دون الحاجة إلى التقاء أطراف النزاع في مكان معين، ويكون النزاع ناتجًا من علاقة تجارية أو غيرها -إلكترونية كانت أو تقليدية- للفصل فيها بإجراءات إلكترونية وإصدار حكم ملزم لها.
وفقًا لتوماس هالكيت في كتابه ” استخدام التكنولوجيا في التحكيم…”: «يمكن للبرمجيات تحليل كميات كبيرة من وثائق الأدلة بطرق لا يمكن تحقيقها بطريقة يدوية، فتعدّ تكنولوجيا الفيديو على سبيل المثال بديلًا للإجراءات التقليدية القائمة على جلسات الاستماع عندما تكون هذه الإجراءات مكلفة جدًا أو مستحيلة التنفيذ. كما يمكن للبريد الإلكتروني أن يكون وسيلة موثوقة وآمنة وسريعة للتواصل بين الأطراف، ويمكن أن توفر مواقع التخزين عبر الإنترنت مستودعات آمنة وموثوقة وملائمة لجميع الوثائق ذات الصلة بالتحكيم. وإن مما يسهل من تطبيق هذه التقنية توافر كثير من الوسائل الإلكترونية بسهولة وبتكلفة منخفضة أو من دون تكلفة، وبمعنى حقيقي، فإنها يمكن أن تكون مربحة للجميع في عملية التحكيم».
ومع اهتمام القوانين الدولية والمراكز التحكيمية بتنظيم ما يتعلق باستخدامات التكنولوجيا في عملية التحكيم، جاء توجه النظام السعودي الصادر عام 2012م مواكبًا ومتلائمًا مع الإقرار بالحاجة إلى التكنولوجيا في عملية التحكيم، فقد فتح الباب للأطراف المتنازعة لاستخدام واعتماد أي قواعد أو إرشادات دولية تنظم تطبيقات واستعمالات التكنولوجيا بطريقة حديثة وفعالة دون تحديدها أو فرض أي شروط عليها؛ فالمادة الخامسة من نظام التحكيم نصت على أنه: «إذا اتفق طرفا التحكیم على إخضاع العلاقة بینھما لأحكام أي وثیقة (عقد نموذجي، أو اتفاقیة دولیة أو غیرھما) وجب العمل بأحكام ھذه الوثیقة بما تشمله من أحكام خاصة بالتحكیم، وذلك بما لا یخالف أحكام الشریعة الإسلامیة». فمن مفهوم هذه المادة يتضح أنه وفقًا للنظام السعودي يستطيع الأطراف أن يختاروا أي قواعد تحكم المنازعة، ويشمل ذلك القواعد الدولية الحديثة فيما يتعلق بالتحكيم الإلكتروني، مما يتيح الاستفادة من أحدث القواعد التي تنظم التحكيم وإجراءاته بالوسائل والطرق الرقمية؛ ونصت اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم الصادرة بالقرار رقم (541) وتاريخ 26/8/1438هـ صراحةً على أنه: «مع مراعاة ما ورد في النظام في شأن الإبلاغات، يتحقق الإبلاغ بالوسائل الإلكترونية».
إضافةً إلى ذلك، فقد أصدرت المملكة العربية السعودية أنظمة عدة تنظم التعاملات وكذلك التجاوزات والجرائم الإلكترونية، فقد صدر نظام التعاملات الإلكترونية بقرار مجلس الوزراء رقم 80 وتاريخ 7/3/1428هـ، وصُدِّق عليه بموجب المرسوم الملكي الكريم رقم م/18 وتاريخ 8/3/1428هـ، ونظام مكافحة الجرائم المعلوماتية بقرار مجلس الوزراء رقم 79 وتاريخ 7/3/1428هـ، وصُدِّق عليه بموجب المرسوم الملكي الكريم رقم م/17 وتاريخ 8/3/1428هـ، وهذان النظامان يشكلان نقلة كبيرة في البنية التنظيمية والتشريعية للتعاملات الإلكترونية في المملكة في تنظيم استخدام التعاملات الإلكترونية على الصعيدين المحلي والدولي في جميع المجالات المختلفة، كالتجارة، والتعليم، والطب، وتنفيذ مشروع الحكومة الإلكترونية، والدفع الإلكتروني، وغيرها من التطبيقات، ومن جانب آخر فإنه يحد من إساءة استخدام وسائل التقنية المختلفة، وكذلك معالجة الجرائم المعلوماتية حال وقوعها بتحديد الجرائم المستهدفة بالنظام والعقوبات المقدرة لكل جريمة أو مخالفة، وتحديد الجهة المختصة بالنظر فيها، ومن ثم تطبيق العقوبات المنصوص عليها بما يحقق الأمن المعلوماتي وحفظ الحقوق وحماية المصلحة والآداب العامة.
وبعد هذا الاستعراض المختصر للبيئة القانونية في المملكة وإمكانية تطبيق الوسائل البديلة لتسوية المنازعات عن بعد، فهل هناك بعض التحديات التي لا تزال تعيق هذا المسار؟
سيجيب المقال التالي عن هذا التساؤل بإذن الله تعالى.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال