الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
محنة الجائحة الراهنة كسواها من المحن التي شهدتها البشريَّة لامحال زائلة، لتدخل سجلَّ الأوبئة والجوائح التي عانت منها، ولتنتهي مشقَّة العزلة الاحترازيَّة القسريَّة، وتعود المجتمعات إلى مزاولة الأنشطة الحياتيَّة بكلِّ أبعادها، ولتباشرالشركات والحكومات ترميم التصدَّعات الاقتصايَّة والاجتماعيَّة التي أحدثها إعصار الوباء.
أفرزتِ الجائحة حالة مِن الفوضى والتخبُّط والعشوائيَّة والهلع، ولا غرابة! فالأوبة سريعة الانتشارِ كجائحةِ كورونا المستجدَّة سرعان ما تتحوَّل إلى حدث كوني مقلق ، وتنشر ذعرًا وبائيًّا عامًّا. كما تفرز تداعيات صحيَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة حادَّة، وتحدِّيات مستقبليَّة معقَّدة.
المحنة- بكلِّ المقاييس – مفترق تاريخي قد تنتج من جرَّائها أنظمة جديدة بنمط مختلف من العلاقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة. لذا، فإنَّ تحليل تداعياتها المستقبليَّة بشكل متزامن مع مهام إدارة الأزمة، ضرورة قد تجنب تبني قرارات لاتوازن بين مخاطرالأوبئة المستقبليِّة وكلف رصدها واحتوائها، وتحول دون الارتكاز الى حلول مجتزأة تلد تبعات مستقبليَّة سلبيَّة.
في واقع متطلَّبات الحجر القسري والإجراءات الاحترازيَّة، اضطرَّت غالبيَّة الحكومات والشـركات الكبرى والمتوسِّطة الى اعتماد التقنيات الرقميَّة وسياق تقديم “الخدمات عن بُعْدٍ” بشكل مؤقَّت، لتأمين إنسيابيَّة أنشطة حيويَّة، كالخدمات الحكوميَّة والمصـرفيَّة، واستمرار المسيرة التعليميَّة بكلِّ مراحلها. هذه السياقات الاستثنائيَّة المؤقَّتة فرضتها ضرورات العزل الاجتماعي للحدِّ من انتشار الجائحة واحتوائها. ومن المُفترض أن يتوقَّف استخدامها بعد زوال الأزمة، لكونها لا تقدِّم “الحل الأمثل”، بل “البديل الثاني” للحالة المُثلى .
الاستخدام الواسع لتقنية “الذكاء الصناعي” وتطبيقات “التحولات الرقميَّة” ولاسيما تقنية “الخدمة عن بُعْدٍ “، أدَّى إلى ارتفاع المطالبات بتحويل الحلول التقنيَّة المؤقَّتة إلى سياقات دائميَّة، وإلى التوسُّع الأفقي في اعتماد تطبيقات التحوُّلات الرقميَّة، بذريعة (الكفاءة التقنيَّة) وتقليص النفقات، دون مراعاة للتبعات المستقبليَّة الخطِرة للتقنيات الرقميَّة، الاقتصادية منها اوالاجتماعيَّة .
هنالك صنفان من المخاطرالرقميَّة المحتملة تستوجب التنويه والتحليل: الأوَّل؛ يكمن في المخاطر الناجمة عن اعتماد التطبيقات الرقميَّة، “التعلم عن بُعْدٍ” كسياق أساسي في المعاهد التعليميَّة بمختلف مراحلها.
اعتماد نهج “التعلم عن بعد ” قد يحمل قدرًا كبيرًا من المخاطر على جودة المستوى التعليمي، في مراحل التعليم الأساسي خاصَّةً، ويغفل عن جوانب تعليميَّة وتربويَّة مهمَّة. فمهام المدارس والمعاهد لا تقتصر على تلقين الطلبة العلوم والمعارف العلميَّة والإنسانيَّة فحسب، بل توفِّرلهم أيضًا البيئة السليمة للتواصل والتفاعل الإنساني، وتطوير مهارات التفكيرالنقدي، وبناء مكوِّنات شخصيَّة تساعد الطلبة على قيادة مجتمعاتهم مستقبلًا. المعاهد التعليميَّة تمنح الطلبة البنية التربوبَّة والأخلاقيَّة. وهذه المزايا الجوهريَّة لا يتمكَّن نهج ” التعلم عَن بُعْدٍ” من توفيرها. تبنِّي نهج ” التعلم عن بُعْدٍ” دون تحليل نتائج التجربة الراهنة بشكل علمي وموضوعي يحمل قدرًا كبيرًا من المجازفة والمخاطر.
الصنف الثاني من المخاطرالتقنيَّة التي قد تفرزها تجربة الجائحة ، يتمثَّل في مخاطر الاستخدام الموسَّع للتطبيقات والتقنيات الرقميَّة، وإحلال ما يُطلق عليها “التقنيات الذكيَّة” عوضًا عن الموارد البشـريَّة في إدارة المؤسَّسات الحكوميَّة والشـركات الخاصَّة، واحتمال اعتماد سياق “العمل عن بُعْدٍ” لتأمين خدماتها بشكل موسَّع، والتوسع في استخدام التطبيقات الرقميَّة ، لتخفيض النفقات الإداريَّة، وتخفيف التبعات الماليَّة والاقتصاديَّة السلبيىَّة للجائحة.
اعتماد هذه السياقات التقنيَّة على نطاق واسع من القطاع العام والشركات الكبرى، سينتج عنه تبعات ماليَّة واقتصاديَّة واجتماعيَّة سلبيَّة مناقضة لإهداف الخطَّة؛ ومن أهمِّها انخفاض الطلب الكلَّي على السلع والخدمات، وانخفاض الناتج المحلِّي الإجمالي، ومعدَّل النموِّ الاقتصادي.
التأثير المباشر والأكثر وضوحًا لهذه السياقات، ينعكس على جانبي العرض والطلب في سوق العمل. تبنِّي التقنيات الرقميَّة البديلة للموارد البشـريَّة، سيخفض الطلب على العمل من جهة، ويزيد العرض من جهة أخرى، وبالتالي يؤدِّي إلى حالة من عدم التوازن، وارتفاع البطالة، وانخفاض مستوى الأجور.
إرتفاع حجم البطالة، وخلق جيش من العاطلين غير القادرين على إعالة أنفسهم وعوائلهم، تنتج عنه تبعات اقتصاديَّة واجتماعيَّة متفاقمة على سعادة المجتمع ورفاهيَّته. التداعيات الاجتماعيَّة السلبيَّة للبطالة لا تقلُ ضررًا عن التأثيرات الاقتصاديَّة، انعدام الدخل، يقود إلى ارتفاع مستوى الجريمة، والنزاعات العائليَّة، وإلى تفشّي الأميَّة والانحلال الخلقي. لهذه المتغيِّرات السلبيَّة مجتمعة تأثير مقلق على الأمن الوطني.
فكرة حتميَّة هيمنة (الذكاء الصناعي) والتقنيات الرقميّة قادمة لا محال. فكرةٌ وهميَّةٌ وخطرةٌ تسعى لتسويقها الشـركات الربحيَّة المنتجة للتقنيات دون مراعاة لمصالح مجتمعاتها. كما أنَّ تبنِّي سياق ” الخدمة عن بُعْدٍ” بشكل موسَّع خيار ينطوي على قدر كبير من المغامرة.
في آذار 2017 أنهت إدارة شركة “آي بي إم” العملاقة تجربة رائدة في “العمل عَن بُعْدٍ” بعد عقدين ونصف من الزمن. وقرَّرت إعادة العاملين لممارسة نشاطهم في مقرَّات الشركة الرئيسة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، كاستراتيجيَّة جديدة قائمة على رفع كفاءة الأداء والعمل الفرقي .
التطوُّرالعلمي والتطبيقات التقنيَّة بما فيها التحوُّلات الرقميَّة والذكاء الصناعي يجب أن تساهم في تعزيز رفاهيَّة الشعوب، وأن تحقِّق لها الرخاء والأمن، لا أن تكون عوامل مهدِّدة للأمن الاقتصادي والاجتماعي.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال