الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
سوق العمل كأي سوق أخر يخضع لقانون العرض والطلب، ويتأثر بكل العوامل التي تؤثر عليه. وأهم نتائج هذا القانون هو تحديد السعر العادل للسلعة الذي يرضى عنده كلا من البائع والمشتري بإتمام الصفقة. والسعر في سوق العمل هو معدل الرواتب والأجور.
يعمل قانون العرض والطلب في السوق بشكل آلي لضمان عدالة التعاملات فيه. فمثلا زيادة الطلب على العمالة ترفع الأجور ما لم يقابلها زيادة مماثلة أو أكبر في العرض، كما تتأثر الأجور بالتغير في العرض أيضا سلبا وإيجابا. والعرض والطلب يتأثران بعوامل كثيرة منها على سبيل المثال طبيعة النشاط الاقتصادي، ومستوى المهارات والمعارف والخبرات المطلوبة في المهنة، ومنطقة العمل، والقوانين المنظمة، والرواج أو الكساد في الاقتصاد أو في أحد قطاعاته، وساعات العمل وغيرها.
تلك الآلية البسيطة التي تنظم سوق العمل في أي مكان في العالم لا تعمل في سوق العمل السعودي بشكل طبيعي. ببساطة لأنه ليس سوقا طبيعيا، ويعاني من خلل كبير في عدة جوانب، أخطرها برأيي جانب العرض. فهو يتكون من ثلاث مستويات، في حين أن الطلب يتكون من مستوى واحد، لذلك جانب الطلب يسيطر تماما على السوق ويتحكم في مجرياته ويفرض كل آلياته.
المستويات الثلاثة للعرض في سوق العمل السعودي هي: أولا العمالة السعودية التي تتدفق بالآلاف لسوق العمل سنويا، وفي كل عام تزداد أعدادها وبسببها تتضخم البطالة. وهذا المستوى من العرض تحاول الحكومة حمايته بالقوانين، والدعم المالي، لأنه لا يستطيع المنافسة بسبب المستويين الأخرين من السوق. وهذا المستوى في واقع الحال مستوى ثانوي للسوق، والمفترض أنه السوق الرئيسية للعمل.
ثانيا العمالة الوافدة الموجودة في السوق والذين اكتظت بهم كل القطاعات الاقتصادية عبر سنين من الاستقدام العشوائي والذي لم يخل من الفساد في أحيان كثيرة. هؤلاء تحول كثير منهم من عامل إلى صاحب عمل من وراء حجاب (التستر). وهذه العمالة تؤثر في حجم العرض بضخامتها. كما تؤثر في العناصر المؤثرة على العرض من عدة جوانب؛ أولا القبول بمعدلات منخفضة من الأجور، والقبول بشروط عمل صعبة. ثانيا احتكارها للقطاعات الاقتصادية بأشكال مختلفة جعل دخول العامل السعودي لبعض المجالات الاقتصادية أشبه بالمستحيل. ثالثا تحكم الكثير منهم في قرارات التوظيف (الطلب)، إما بكونهم أصحاب العمل الحقيقيين، أو بتحكمهم في دوائر القرار في تلك المنشآت بعد سنين طويلة من السيطرة عليها. وهذا الحالة لا مثيل لها في أي سوق في العالم، أن يكون الشخص محسوبا على طرفي المعادلة (العرض والطلب).
ثالثا العمالة في الخارج من دول الاستقدام والتي تمثل سوقا ضخما مفتوحا على مصراعيه على سوق العمل السعودي. وهذا السوق كان ضرورة في الماضي، وهو ضرورة الآن في بعض التخصصات والمهن المحدودة. لكن ما حدث ويحدث أن أسواق دول الاستقدام تمثل اسواقا منافسة لسوق العمل السعودي من داخله، وبدعم أنظمة العمل السعودي، وهي السوق الرئيسية لمعظم الأعمال خصوصا الناشئة. وهذا الفئة مرتبطة بالفئة الثانية بشكل كبير جدا، لذلك نشهد الاحتكارات في السوق، وسنتحدث عنها في مقال قادم.
ذلك التشوه في العرض فرض نوعية معينة من العمالة على سوق العمل السعودي متدنية التعليم والمهارة والمستوى المعيشي. وهي بذلك تجعل السوق طاردا للعمالة عالية المهارة في كافة التخصصات. ولهذا النمط من العمالة آثارا سلبية على العمالة السعودية من جانبين: الأول تدني مستوى الخبرة التي تستقي منها العمالة السعودية المهارات المهنية عند دخولها للسوق، وبالتالي تدني مهارة العمالة السعودية مستقبلا. والثاني صعوبة منافستهم من قبل أصحاب المهارات العالية من السعوديين وغير السعوديين. فالقاعدة الاقتصادية تقول (العُمْلة الرديئة تطرد العُمْلة الجيدة من السوق).
في جانب الطلب إذا استثنينا الحكومة والشركات الكبيرة العاملة في مجال النفط والطاقة، وحسب توقعي لا تتعدى حصتهم في السوق 25٪ من حجم الطلب، هناك ثلاثة أنواع من طالبي العمل. أولا الشركات الكبيرة التي يديرها أصحابها، وهذه تطبق قانون العرض والطلب بحسب المساحة الكبيرة للعرض. حيث أن العرض أكبر من الطلب بكثير وبالتالي فإن الأسعار منخفضة جدا. لذلك هم لن يدفعوا سعرا لسلعة أعلى من قيمتها السوقية. وهم مستعدون لتوظيف المواطن قبل الوافد لكن بشرط السعر الموجود في السوق، وبشروط العمل التي تفرضها الوفرة.
النوع الثاني الشركات التي يديرها أو يتحكم في قرارها العامل الوافد سواء كان موظفا أو مالكا (تحت تستر)، وهذا النوع من الشركات لا تفضل العامل السعودي مطلقا، ولا تقبل به إلا تحت ضغوط قوانين وزارة الموارد البشرية. ليس بسبب الأجر فقط، ولكن خوفا من المنافسة والإزاحة من السوق. وغالبا ما لا يستطيع العامل السعودي الاستمرار في مثل تلك الشركات لأسباب مختلفة، من أهمها كثرة الضغوط وعدم إعطائه عمل حقيقي.
النوع الثالث من طالبي العمل هي الشركات المتوسطة والصغيرة، وهي الأكبر طلبا للعمالة. ومعظم تلك الشركات تحت سيطرة العمالة الوافدة وينطبق عليها ما ينطبق على الشركات التي تسيطر عليها العمالة الوافدة. وحتى تلك التي تحت إدارة المالك السعودي لا تفضل العامل السعودي لأن أجره وشروط عمله لا تناسبهم في الغالب. فالعرض الضخم جدا والمفتوح طوال عقود أسس لمستوى أجور متدنية وطبيعة عمل (فوضوية) وصعبة يرفضون التنازل عنها. بل إن العامل السعودي لا يقبل بالعمل في تلك الشركات إلا مرغما، وإن قبل تحت أي ظرف فإنه يستغل أقرب فرصة للهرب.
ما تقوم به وزارة الموارد البشرية ومنذ سنوات هو معالجة الأعراض الناجمة عن الخلل الهيكلي الضخم في السوق وليس معالجة الخلل نفسه. وأهم عرضين لذلك الخلل ضعف توظيف العامل السعودي، وسهولة التخلص منه. والعلاج المعتمد أشبه بوصفة ثابتة تتكون من ثلاث (مسكنات)، الأول فرض توظيف السعودي حتى في غير المكان المناسب له. الثاني تقديم الحوافز للشركة الموظفة، ومنها تحمل جزء من راتب العامل لعدة أشهر. والثالث وضع قيود هشة جدا تبطئ من تسريح العامل السعودي.
لكل ما سبق، فإن سوق العمل يستنزف خزينة الدولة بشكل مباشر وغير مباشر، من خلال دعم رواتب وأجور القطاع الخاص، وتحمل كثير من النفقات عنهم، وتقديم التسهيلات التي تعمق المشكلة الأساسية. كما أنه يستنزف الاقتصاد من خلال إضعاف القوة الشرائية للطبقة السعودية الوسطى التي تضمحل سنة عن سنة، لتنامي أعداد العاطلين سنويا، ولتدني أجور معظم العاملين السعوديين في القطاع الخاص. كما يستنزف الاقتصاد من خلال تحويلات العمالة الوافدة المليارية للخارج سواء بشكل قانوني أو غير قانوني.
وبدل أن يكون سوق العمل السعودي مصدرا ضخما لدخل أكبر اقتصاد في المنطقة، تحول لفجوة استنزاف له. وبدل أن تتسابق الشركات على استقطاب العامل السعودي كونه يمثل السوق الأهم والأجدى لها، أصبحت الدولة تدفع الحوافز وتقدم المغريات للقبول به على مضض. لهذا لا يمكن أن يعمل الاقتصاد بشكل طبيعي ويخلق فرصه من داخله وهذا الخلل الضخم موجود في سوق العمل.
أخيرا، لماذا لم تؤثر المليارات التي تنفقها حكومة خادم الحرمين الشريفين حفظه الله على سوق العمل طوال سنين في معدل البطالة؟ وهل ستكون الحوافز الكريمة والضخمة المقدمة للقطاع الخاص لمواجهة جائحة كورونا كافية للحفاظ على العمالة السعودية في ظل هذا الخلل المخيف في سوق العمل؟ والأهم لماذا لا يتم إصلاح ذلك الخلل في السوق رغم وضوحه؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال