الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
تعرَّض الاقتصاد السعودي مؤخرًا إلى صدمتين متزامنتين؛ الأولى “دخليَّة”، نجمت عن تراجع إيرادات الدولة إثر انخفاض الطلب العالمي على النفط الخام، وتدهورأسعاره نتيجة توقُّف نشاط القطاعات الإنتاجية والإستهلاكية في الدول الصناعية الكبرى، وفي مقدَّمتها الصين، وتعطل حركة النقل العالمي من جرَّاء الانتشار المفاجيء والكاسح لجائحة كورونا المستجدة.
أمَّا الصدمة الثانية ، فتكمن في الآثار الاقتصادية المترتّبة عن التدابيرالاحترازية والوقائية المفروضة لكبح جماح إنتشار الجائحة في المملكة، وتأثيرها في أنشطة الاستهلاك والإنتاج والاستثمار وسوق العمل والمالية العامة.
تبعات التدابيرالوقائية، طالت بدرجات متفاوتة القطاعات والأنشطة الاقتصادية كافَّة، وأسفرت عن تراجع كبير في الطلب على السلع الاستهلاكية، وتوقف النشاط الإنتاجي، وتسـريح نسبة مؤثرة من قوَّة العمل وانخفاض مستوى الدخل الكلي. إلَّا أنَّ تأثيرها كان أكثرحدَّةَ في المنشآت الصغيرة ومتوسطة الحجم التي فقدت مصادرتدفقاتها النقدية. هذه العوامل مجتمعة، قادت إلى انخفاض حاد في الطلب الكلي على السلع والخدمات، وبالتالي إلى حالة الركود الاقتصادي الذي يعاني منه اقتصاد المملكة .
علاوة على تأثيرها في جوانب الاقتصاد الجزئي، أثَّرت التدابير الأحترازية في مكوِّنات الاقتصاد الكلِّي ؛ الميزانية العامَة والتجارة الخارجية وسوق العمل كذلك. نفقات برامج التحفيز الاقتصادي والمالي التي أعتمدتها الحكومة لمواجهة تداعيات الجائحة، وارتفاع تكاليف القطاع الصحِّي العام والإعانات الاجتماعية، ودعم دخول المواطنين العاطلين عن العمل، وغيرها من بنود الانفاق، ضخَّمت الإنفاق العام بشكل حادٍّ وغير متوقَّع. الارتفاع الكبير في الإنفاق الحكومي، رافقه انخفاض حاد في الإيرادات من جرَّاء تراجع التدفقات النفطيَّة التي تشكِّل مصدرًا أساسيًّا من إيرادات الدولة، وانخفاض تحصيلات الضرائب ورسوم الخدمات الحكوميَّة وتأجيلها. هذه التغيُّرات المتعاكسة زادت من عجز الميزانيَّة العامة وحجم الدين العام .
لمجابهة تداعيات الجائحة الاقتصادية والمالية والاجتماعية، بادرت الحكومة ومؤسساتها مبكِّرًا إلى اعتماد جملة من الإجراءات المالية والنقدية المضادة للصدمتين. لعلَّ أهمها اعتماد برنامج التحفيز الاقتصادي والدعم الاجتماعي لتعزيز الطاقة الإنتاجية والقوة الشرائية بكلفة مئة مليار ريال. منها مبلغ ثلاثون مليار ريال تمَّ تخصيصه لدعم البنوك المحلية، وتسهيل عملية منح الشركات الصغيرة والمتوسطة مهلة سماح لتأدية التزاماتها المالية ، ومنحها قروض وتسهيلات ائتمانية جديدة، بالإضافة إلى تأجيل الاستحصالات الضريبة والرسوم الحكومية.
ان الاقتصاد السعودي قادر على تجاوز تحديات الأزمة الراهنة بما يمتلك من قدرات اقتصادية وموارد مالية وطاقات بشرية شابة ومنتجة، وقيادة فعَّالة عازمة على مواصلة برامج البناء والتطور والتحوُلات الهيكلية الاقتصادية والاجتماعية. هذا ليس رأيًا متفائلًا، بل تقدير مبني على تحليل مكامن قوة الاقتصاد السعودي، وتشخيص افاقه المستقبلة.
فعلاوة على خزين النفط والغاز الهائل ، تحتفظ المملكة برصيد موجودات أجنبية وحقيبة استثمارية كبيرة وموقع أئتماني متميز، وميزانية عامة في وضع متين، ووفرة في الأصول الثابتة والسائلة، إلى جانب قطاعات صناعية وزراعية كبيرة، وقطاع سياحي واعد، وموارد بشرية منتجة وشابة، وطاقة استيعابية واسعة.
هذه الطاقات والإمكانيات الاقتصادية والمالية والبشرية، تتيح للاقتصاد السعودي تجاوز التحديات المالية، وردم الفجوة الاستهلاكية والانتاجية الراهنة وإعادة الناتج المحلي الاجمالي إلى مستوى نمو قريب من مستوى مرحلة ما قبل الأزمة.
علاوة على توفر الامكانيات والقدرات الاقتصادية والمالية والبشرية، ثمَّة مجموعة من المتغيرات التي قد تعجِّل انتعاش الاقتصاد السعودي، ويمكن إيجازها في مجموعتين من المؤثرات الأساسية.
مؤثرات خارجيَّة؛ رفع أوتخفيف الإجراءات الاحترازية والوقائية في غالبية الدول، الصناعيَّة منها خاصَّةً، و رفع الحظر عن نشاط النقل والشحن سيؤديان إلى ارتفاع الطلب على النفط الخام وزيادة أسعاره. كما سيؤدي الرفع إلى استئناف تصدير السلع والمنتجات السعودية، وتفعيل قطاع السياحة والسفر في المملكة .
مؤثرات داخلية؛ رفع الإجراءات الوقائية داخل المملكة من شأنه:
أولًا، إطلاق الطلب المكبوت “المؤجل”على السلع والخدمات الاستهلاكية الناجم عن غلق محلات التجزئة والمراكز التجارية، وحظر التجوال، وبالتالي ردم الفجوة الاستهلاكية وتنشيط القطاعين الاستهلاكي وارتفاع ايراد الضرائب المستحصلة ، والإنتاجي وتقليص معدل البطالة وانخفاض حجم الاعانات الاجتماعية وزيادة الدخل الكلي.
ثانًيا، استئناف تنفيذ مشاريع القطاعين العام والخاص العمرانية يؤدي إلى زيادة الطلب على مواد الأنشطة المرتبطة بقطاع الإنشاءات، كتجارة المواد الأولية والخدمات اللوجستية والخدمات الهندسية والاستشارية. هذه التغيرات الإيجابية ستخفض معدَّل البطالة وتحسِّن الدخل الكلي .
تجاوز الازمة الاقتصادية والمالية الراهنة وتقليص فترة الركود يعتمد ايضا على مقومات نجاح مكملة اهمها ؛ سرعة تنفيذ الخطط الحكومية وفعالية التنفيذ،كفاءة الجهاز المصرفي والتسهيلات الائتمانية ،تأدية الشركات لمسؤلياتها الاجتماعية ، قدرة تجارة التجزئة على استرداد المستهلكين، ثقة المستهلكين والمستثمرين،والاهم الفترة الزمنية المتبقة لانحسار الجائحة وزوال تأثيرها .
التوظيف المتوازن لآليات السياستين؛ النقدية والمالية يسهم في معالجة تداعيات الجائحة وإنعاش الاقتصاد برغم كلفها الماليَّة المستقبليَّة، الا ان الاكتفاء بالسياستين المالية والنقدية واغفال العوامل الاقتصادية الهيكلية الأُخرى قد لا يحقق النتائج المتوخاة في الوقت المحدد ! لذلك يجب التفكير في اعتماد سياسات وخيارات أُخرى اهمها سياسة رفع مستوى الاستخدام .
الأزمة الراهنة، مع ما أفرزته من تداعيات اقتصاديَّة ومالية واجتماعيَّة، تتيح لحكومة المملكة والمنشآت الخاصَّة فرصة تاريخيَّة لمراجعة أولويَّات خططها الاقتصاديَّة والتنمويَّة وأهدافها، وإعادة صياغة استراتيجيَّاتها وفق مفاهيم وآليات تنفيذيَّة جديدة، قادرة على بناء اقتصاد متين ومستدام.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال