الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
في مقال الأسبوع الماضي سوق العمل يستنزف الاقتصاد شرحت فيه تركيبة السوق وكيف أنه يعاني من تشوه كبير جدا في جانب العرض، وذلك التشوه أدى إلى سيطرة العمالة الوافدة عليه. والسيطرة على سوق العمل تعني بكل بساطة السيطرة على الاقتصاد بأكمله.
أخطر ما أنتجته سيطرة العمالة على سوق العمل تكوّن حلقات احتكارية رأسية لكل قطاع اقتصادي بمفرده في جانبي السلع والخدمات. والاحتكار يتم بناء على الجنسية أو حتى أبناء منطقة معينة من جنسية ما، وتكونت مؤسسات عائلية للعمالة. فمثلا تسيطر عمالة من جنسية معينة على سوق تجزئة المواد الغذائية، وأخرى تتحكم في الصيدليات، وثالثة على نوع معين من مواد البناء، ورابعة على صيانة الأجهزة المنزلية، وخامسة على نوع معين من خدمات السيارات، وهكذا.
حلقة الاحتكار الرأسي لقطاع ما تعني التحكم في خدمات التسويق، والتخزين، والنقل والتوزيع، والمحاسبة والتدقيق. بل وصل الأمر في بعض القطاعات إلى التحكم في الاستيراد وتجارة الجملة. خصوصا بعد السماح لتجار الشنطة الصينيين بتسويق المنتجات الصينية في السوق السعودي.
ذلك النمط من الاحتكار للقطاعات الاقتصادية أدى إلى مشاكل كبيرة جدا في السوق السعودي بشكل عام. منها على سبيل المثال؛ تدني مستوى جودة كثير من السلع والخدمات، وفي نفس الوقت ارتفاع السعر مقارنة بالجودة. كما سهل ذلك الاحتكار تمرير المخالفات والجرائم كالسلع المغشوشة ومنتهية الصلاحية، واستغلال خدمات المؤسسات الخاصة والرسمية. وما تكشفه الجهات الأمنية والرقابية من منتجات فاسدة ومغشوشة ومواد مخالفة للأنظمة وبكميات مخيفة ما كان لها أن تصل إلى الأسواق لو لم يكن القطاع الذي تتحرك فيه تلك السلعة أو الخدمة محتكرا بالكامل، في صورة من صور الجريمة المنظمة (بشكل قانوني).
الأثر الأكبر والأكثر ضررا لحلقات الاحتكار يحدث في سوق العمل نفسه. فالقطاع المُحتكر يصعب دخوله من أي جنسية أخرى، والسعودي من باب أولى أن يجد صعوبة في دخوله. ووسائل المحافظة على الاحتكار كثيرة أهمها المحافظة على مستوى أجور متدني جدا. والأجر المتدني يعد خط الدفاع الأول والأهم. العمالة المحتكرة لا يهمها الأجر فهو مجرد شكل قانوني لعلاقتهم بصاحب العمل الفعلي أو المتستر يقدم للجهات الرسمية، فما يجنونه من أرباح احتكار المهنة أكبر بكثير من أي أجر يمكن أن يدفع لهم، بل في حالة التستر هم من يدفع الأجر للسعودي. لذلك الأجر المرتفع يعني السماح بدخول السعودي لسوق العمل وهو ما يمثل خطرا عليهم.
المؤسف أن وصل احتكار العمالة لسوق العمل أن تقوم هي باستقدام من تريد من العمالة من الخارج. إما لأنهم أصحاب العمل الفعليين، ويفرضون على المتستر كل القرارات الاستثمارية بما فيها الاستقدام، أو بحكم موقعهم المسيطر على العمل الذي من خلاله يستطيعون إقناع (إجبار) صاحب العمل باستقدام من يرغبون به. النتيجة تكريس الاحتكار للمنشأة والقطاع. الكارثة أن الفجوة تعمقت بين العامل السعودي وسوق العمل، خصوصا في المنشآت الصغيرة والمتوسطة، وحتى في بعض المنشآت الكبيرة.
الحالة السابقة جعلت العمالة الوافدة في القطاع الخاص تقع في جانب العرض بصفتها عمالة دخلت لسوق العمل السعودي من أجل العمل في مهن محددة حسب الشكل الرسمي، وفي جانب الطلب بصفتها تتحكم في التوظيف بشكل مباشر أو غير مباشر. لذلك هم يفرضون جنسيات وخبرات ومهارات وأجور العمالة التي تدخل السوق، بما يضمن سيطرتهم عليه. وهم مرتبطون بأسواق العمل في دول الاستقدام كل حسب جنسيته، ويحددون من يسمح له بدخول سوق العمل السعودي ممن لا يسمح له بذلك. والأقربون أولى بالمعروف، وأجدى في المكسب.
يجب كسر حلقات الاحتكار داخل كل مؤسسة وداخل كل قطاع، فلا يسمح بسيطرة جنسية معينة على النقاط الرقابية للعمل (التسويق، التخزين، النقل والتوزيع، والمحاسبة والتدقيق). وأفضل من يكسر تلك الحلقات هم الشباب السعودي. كما يجب تفتيت كثافة العمالة من جنسية معينة في مجمل السوق ولو بجنسيات أخرى أقل كثافة. بعض الجنسيات في سوق العمل السعودي وصلت لأعداد كبيرة جدا، وأصبحت تمثل خطرا على الأمن القومي.
الظروف الاقتصادية الصعبة التي يمر بها الاقتصادي السعودي بسبب كورونا ستفرض تضحيات كبيرة جدا في سوق العمل خلال الأشهر القادمة، وبسبب تركيبة السوق التي فصلناها في هذا المقال والمقال السابق فإن العمالة السعودية ستكون الضحية الأسهل لهذه الأزمة، والمحفزات المالية للقطاع الخاص قد تؤجل المشكلة في المدى القصير، لكن لن تحلها على المدى المتوسط والطويل. كما أن الخلل الكبير في سوق العمل تجذر ولم تجدي معه كل الحلول السابقة. لذلك نحن بحاجة لقرارات قوية وصارمة ومؤلمة لتفادي (مجازر) السعوديين في سوق العمل، ولمعالجة هيكل السوق المختل، وهذا هو الوقت المناسب لها فعلا.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال