الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
لعلَّ أقسى تداعيات الجائحة وأكثرها حدَّة تلك المتعلَّقة بتأثيرها في سوق العمل، وارتفاع معدَّل البطالة، وما ترتَّب عن ذلك من نتائح اقتصاديَّة واجتماعيَّة مؤلمة. البطالة مشكلة اجتماعيَّة بقدر ما هي اقتصاديَّة، وكلفها الاجتماعيَّة لا تقلُّ حدَّة عن كلفها الاقتصاديَّة.
تقديم حلول لهذه المشكلة المعقَّدة ومتعدِّدة الأبعاد، شكَّل وما يزال تحديًا للاقتصاديين وأصحاب القرار السياسي كونها تمثِّل هدرًا لعنصر العمل، اكثرعناصرالإنتاج أهميَّة، إلى جانب كلفها الاقتصاديَّة المرتفعة التي تشمل انخفاض الطلب الاستهلاكي والاستثماري، وتراجع مبيعات التجزئة، ومعدَّلات الإنتاج، وانخفاض حصيلة الضرائب، وزيادة الإنفاق الحكومي الناجم عن مساعدات الدعم الاجتماعي، وإعانات البطالة، وارتفاع مستوى الفقر، وزيادة معدَّلات الجريمة والعنف الأسري، وعديد من المشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والأمنيَّة.
إصلاح الخلل في سوق العمل، ورفع مستوى الاستخدام من شأنهما تحفيز الطلب الفعَّال على السلع والخدمات الاستهلاكيَّة والاستثماريَّة، وتنشيط الاقتصاد. لذلك، تقتضي الضرورة أن تمنح خطط الإنعاش الاقتصادي تخفيض معدَّل البطالة أهميَّة استثنائيَّة، وأن تباشرالحكومات في وضع استراتيجية فعَّالة لزيادة مستوى الاستخدام، والوصول بمعدل البطالة إلى المعدل الطبيعي Natural rate of unemployment”” في أقصرمدَّة زمنيَّة ممكنة.
إحداث استراتيجيَّة استخدام فعَّالة ذات أهداف قابلة للتحقيق، يتطلَّب – في تقديري – مراعاة عاملين مهمَّين: أوَّلهما، تخفيض معدَّل البطالة إلى “المستوى الطبيعي” لا يمكن تحقيقه في مرحلة اقتصاديَّة واحدة، بل عبر مراحل مترابطة ومتكاملة ضمن استراتيجيَّة استخدام شاملة.
العامل الثاني؛ مسؤوليَّة حلِّ هذه المشكلة لا تقع على كاهل الحكومة ومؤسساتها حصرًا، بل تتطلَّب إسهام قطاع الأعمال ، وأفراد المجتمع والمنظمات غير الربحيَّة أيضًا. من المؤكَّد أنَّ دور المؤسسات الحكوميَّة في قيادة الاقتصاد الوطني، ومعالجة اختلالاته الهيكيَّلة هام ومؤثِّر. إلَّا أنَّها لا تتمكَّن من بناء اقتصاد مستقر دون المشاركة الفعَّالة للمكوَّنات الأساسيَّة الأُخرى.
إسهام الشركات الخاصَّة في حل مشكلة البطالة لا تفرضها مسؤولياتها الاجتماعيَّة، بل تقتضيها مصالحها التجاريَّة أيضًا. كما أنَّ دور الأفراد وتفاعلهم وسعيهم لتطوير قدراتهم ومهاراتهم وإنتاجيَّتهم عامل مهم في تحسُّن سوق العمل. إلى جانب الدور الحيوي لمكونات الاقتصاد الأساسيَّة الثلاثة، هنالك دور مهمٌّ أيضًا للجمعيَّات غير الربحيَّة، من خلال طرح المبادرات الاقتصاديَّة المجتمعيَّة، وبرامج تطويرالقدرات البشريَّة الوطنيَّة وتمكينها.
في تجارب الانكماش والكساد الاقتصادي العديدة التي عانت منها اقتصاديَّات دول كثيرة، لجأت الحكومات ومؤسساتها إلى الوصفة التقليديَّة القائمة على استخدام أدوات السياستين الماليَّة والاقتصاديَّة لإنعاش الاقتصاد ونموُّه. توظيف مزيج متوازن من أدوات السياستين، يحدُّ من ارتفاع البطالة، ويخفضها في المدى القصير! لكن لا يتمَّكن من الوصول إلى ” المستوى الطبيعي للبطالة” من دون خلق إشكاليَّات اقتصاديَّة جديدة منها؛ التضخُّم، وعجز الميزانيَّة والمديونية العامَّة.
دأبت الخطط التنمويَّة والسياسات الاقتصاديَّة على إدراج هدف زيادة مستوى الاستخدام من بين أهداف خططها، إلَّا أنَّها لم تطوَّر استراتيجيَّة شاملة طويلة الأمد لتحقيق هذا الهدف الحيوي .
التغيُّرات الاقتصاديَّة الموجعة التي أفرزتها الجائحة، وحالة عدم التوازن في سوق العمل خاصَّةً، تتطلَّب إعادة صياغة الخطط الاقتصاديَّة وفق مفهوم تنموي بديل مستند على زيادة “مستوى الاستخدام” وتنمية دخول الأفراد، لبناء اقتصاد مستقرٍّ ومستدام .
المفهوم التنموي البديل قائم على العلاقة الطرديَّة بين تنمية دخول الأفراد والنمو الاقتصادي المستدام. الزيادة المخططة لدخول الأفراد تقود إلى زيادة الطلب الفعَّال على السلع والخدمات، ونموِّ الناتج المحلي الإجمالي، وبالتالي بناء إقتصاد مستق ومستدام قادرعلى استيعاب الصدمات الاقتصاديَّة الخارجيَّة، أو تخفيف تداعياتها.
تنفيذ استرتيجيَّة التنمية البديلة، يتمُّ من خلال اعتماد الخطَّة الاقتصاديَّة للدولة “تعظيم الاستخدام” هدفًا مركزيُّا وأساسًا، والتزام الخطَّة في تحقيق معدَّل بطالة محدَّد.
هذه المساهمة ، وإن كانت لا تتيح الإسهاب في عرض آليَّات الخطَّة، وشرح أدوار المكوِّنات الاقتصاديَّة الأساسيَّة في إنجاحها، إلَّا أنَّ من الضروري الإشارة إلى قدرة الحكومة على رفع مستوى الاستخدام عبر خلق فرص عمل ناجمة عن مشاريعها التنمويَّة، وتوفير المناخ الملائم لنموّ الشركات الصغيرة والمتوسِّطة التي تشكِّل العمود الفقري للاقتصاديَّات المستقرَّة، وتوفير مقوِّمات الديمومة والنجاح لها.
إستراتيجيَّة تعظيم الاستخدام، وتنمية دخول الأفرد، تسهم في إعادة استثمار الطاقات البشريَّة المعطَّلة وتحويلها إلى زخم اقتصادي منتج في الأنظمة الاقتصاديَّة خاصَّةً الزاخرة بالطاقات الشابَّة المؤهلة والقادرة على بناء مستقبل زاهر.
الأزمة الاقتصادية الراهنة، تتيح للحكومات والمنشآت الخاصَّة فرصة مراجعة خططها الاقتصاديَّة والتنمويَّة وأهدافها، وإعادة صياغة استراتيجيَّاتها وفق مفاهيم وآليات تنفيذيَّة جديدة، قادرة على بناء اقتصاد مستقرٍّ ومُستدامٍ.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال