الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
إبَّان الأزمات الاقتصاديَّة الحادَّة كالتي يمرُّ بها الاقتصاد العالمي حاليًّا، يتطلَّع المستهلكون والشـركات الخاصَّة إلى التدخُّل الحكومي، كقوَّة فعَّالة، وربمَّا الوحيدة القادرة على إنعاش الاقتصاد وزيادة الناتج المحلِّي الإجمالي.
وضع آليَّات معالجة الركود الاقتصادي المتفاقم، المرشَّح للتحول إلى انكماش قاس، مهمَّة تحمل قدرًا كبيرًا من التحدِّيات والمخاطر الاقتصاديَّة والسياسيَّة للمخطِّطين الاقتصاديِّين وأصحاب القرار.
لمعالجة الصدمة، توظف الحكومات سياسة إدارة الطلب؛ (الماليَّة والنقديَّة)، لنجاعتها وقدرتها على تحفيز الطلبين الاستهلاكي والاستثماري، وزيادة مستوى الاستخدام والإنتاج. وبالتالي، زيادة الطلب الكلِّي على السلع والخدمات من خلال زيادة الإنفاق الحكومي، وتقليل الضرائب والرسوم الحكوميَّة، والسيطرة على سعرالفائدة. إشكاليَّة هذا النمط من السياسات، تكمن في فرزها عجزًا، أو ارتفاع مقدار عجز الميزانية العموميَّة، إلى جانب المديونيَّة الحكوميَّة.
تعرَّض، وما يزال استخدام السياسة الماليَّة وقدرتها على معالجة الركود الاقتصادي إلى التشكيك في فعاليَّتها وفِي نجاعة نتائجها. مواقف الاقتصاديِّين والمختصِّين الماليِّين المشكِّكين، استندت على منطلقات نظريَّة ومواقف أيديولوجيَّة، في حين كانت مواقف الأَفراد والمنشآت الخاَّصة من حرصها على سلامة الاقتصاد الوطني، وخشيتها من التبعات المستقبليَّة للعجز والمديونيَّة.
المدارس الاقتصاديَّة الكلاسيكيَّة المحافظة، وفي صدارتها المدرسة النقديَّة “Monetarists ” اعترضت على الوصفة “الكينزيَّة”، وشكَّكت في نجاعة السياسيَّة الماليَّة وقدرتها على معالجة الركود الاقتصادي. واقترحت السياسة النقديَّة بديلًا أكثر فعاليَّةً وتأثيرًا. بيد أنَّ العديد من منظِّري تلك المدارس سرعان ما طالبوا بضـرورة التدخُّل الحكومي عند انفجار الفقاعات الاقتصاديَّة. وكان الاقتصادي الأمريكي بيرنانكي ” Ben Bernanke”، أستاذ في جامعة برنستون، ورئيس المجلس الاحتياطي الفدرالي الأمريكي لدورتين 2006″- 2014″ من أبرز منظِّري السياسة النقديَّة ودعاتها. وسبق أن لمَّح بصورة غير مباشرة إلى انتهاء ظاهرة الركود الاقتصادي نتيجة استخدم سياسات نقديَّة قادرة على إدراة اقتصادٍ مُعاصر! لكن إثر تفاقم الأزمة الماليَّة الكونيَّة في سبتمر 2008، أدرك “بيرنانكي” ضعف حدود السياسة النقديَّة في معالجة الأزمة، فناشد الكونغرس للتدخُّل، وتقديم العون المالي لتحقيق الاستقرار، وتجنُّب العواقب الوخيمة، وتفادي الركود الاقتصادي. دعوة واضحة لاستخدام أدوات السياسة الماليَّة وانتهاجها لفعاليَّتها .
وإذا ما ركنَّا جانبًا السجال النظري في نجاعة السياستين؛ النقديَّة والماليَّة، وتجاوزنا بحث دور السياسة النقديَّة، لنركِّز على الهدف الأساس من هذا الإسهامِ في مناقشة دواعي القلق من زيادة الإنفاق الحكومي، بشكل موجز، وبعيد عن الإسهاب النظري. لنصل إلى تقييم موضوعي لنتائج سياسة تمويل الإنفاق بالعجز، المطلوب مراعاة لنقطتين:
الأولى، إِبَّان حالات الأزمات والتحدِّيات الاقتصاديَّة الخطرة والحادَّة كالأزمة الراهنة، لا يتوفَّر “الحل الأمثل” بل يكون “البديل الأفضل الثاني” حلًّا مقبولًا.
الثانية، في هذه المرحلة بالغة الصعوبة، ليست هناك مفاضلة أمام صانعي القرار بين عدم التدخُّل الحكومي، والتدخُّل للحدِّ من أثار الركود من خلال زيادة الإنفاق، وتخفيض الضرائب، وقبول عجزٍ مُخطَّط ومسيطر عليه في الميزانيَّة العموميَّة. مقايسة الكلف المستقبليَّة المحتملة لعجز الميزانيَّة مع الكلف الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الفعليَّة للركود، ترجَّح كفَّة التدخُل الحكومي، وتبرَّر عجز الميزانيَّة.
القلق من سياسة تمويل الإنفاق الحكومي بالعجز أو الاقتراض ينطلق من كونها قد تفرز ثلاث مشاكل اقتصاديَّة سلبيَّة؛ الضغوط التضخميَّة وانخفاض حجم الاستثمار الخاص والارتفاع المستقبلي للضرائب.
القلق الأوَّل، يتأتَّى من أنَّ إنفاق الحكومة المموَّل بعجز الميزانيَّة، والاقتراض يعزِّزان القوَّة الشـرائيَّة، ويرفعان مستوى الطلبين الاستهلاكي والاستثماري. وبالتالي، ارتفاع المستوى العام للأسعار، وخلق ضغوط تضخميَّة. إشكاليَّة هذا القلق، تكمن في أنَّ توفُّر فائض كبير في عرض العمل، وطاقة إنتاجيَّة كبيرة معطَّلة بسبب الركود الاقتصادي، تتيح للمنشآت الخاصة تلبية زيادة الطلب الناجم عن ارتفاع الإنفاق الحكومي دون زيادة أسعار منتجاتها على المدى المنظور. إضافةً إلى استعداد قوَّة العمل العاطلة لزيادة عرض العمل عند مستوى الأجور السائدة. وبالتالي، عدم ارتفاع كلف الإنتاج والأسعار.
القلق الثاني، منطلق من أنَّ تمويل الإنفاق الحكومي بالاقتراض، يحدُّ من الإستثمار الخاص، ويزاحمه، ويقلِّل مستواه. الإزاحة ” Crowding out ” تتأتَّى من ان اقتراض الحكومة لتمويل نفقاتها، يقلِّل من فرص حصول شركات القطاع الخاص على التمويل اللازم للاستثمارات الجديدة بأسعار فائدة منافسة. وهذا يقلِّل حجم الاستثمار والناتج المحلي الإجمالي. علاوة على ذلك، تمويل الإنفاق بالعجز يؤدِّي إلى توجه الادِّخار الفردي للسنداتٍ الحكوميَّة المصدَّرة لتمويل الإنفاق الحكومي بأسعار فائدة تحفيزيَّة، وضمانٍ حكومي عوضًا عن المخاطرة والاستثمار في مشاريع القطاع الخاص. هذه المخاوف المشروعة تجاهلت حقيقة أنَّ حصيلة السندات الحكوميَّة يعاد تدويرها لتنشيط الاقتصاد عبر تعزيز القوَّة الشرائيَّة، و دعم الشركات الخاصَّة وتمويل استثمارتها الجديدة بشروط تشجيعيَّة.
القلق الثالث، من تمويل الإنفاق الحكومي بعجز الميزانيَّة، ناشيء عن مخاوف قيام الحكومة بزيادة معدَّل الضـرائب، أو فرض ضرائب جديدة لتغطية العجز، وتأدية التزاماتها الماليَّة مستقبلًا، كما شهدته كثير من تجارب معالجة الركود الاقتصادي. هذا القلق، يغفل أيضًا عن حقيقة أنَّ انتعاش الاقتصاد، وارتفاع معدَّلات الاستهلاك والاستثمار والإنتاج والتصدير، وزيادة إيرادات الدولة وحصيلة الضرائب مستقبلًا دون الحاجة لفرض ضرائب جديدة، أو رفع نسبتها.
تأسيسًا على ما تقدَّم، في حالة الركود الاقتصادي، توظيف السياسة الماليَّة، وتمويل النفقات الحكوميَّة بعجز الميزانيَّة بشكل مخطط ومتوازن، يحفِّز الطلب الكلي على السلع والخدمات، ويرفع مستويات الاستخدام والدخل الكلي دون ان ينتج بالضرورة، ضغوط تضخُّميَّة، وخفض الاستثمار الخاص، أو زيادة العبء الضريبي على المستهلكين والمستثمرين.
خلال العقود الأربعة الماضية، تمكَّنت دول عدديدة، منها الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة واليابان وكندا من تجاوز تحدِّيات الركود الاقتصادي بسياسة الإنفاق الحكومي بعجز الميزاتيَّة، وتمكنت من أعادة التوازن إلى ميزانيَّاتها في سنوات قليلة.
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال