الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
المدرسة هي المؤسسة الرسمية الأولى التي يتعامل معها المواطن بعد خروجه من منزله للمجتمع، في تلك المؤسسة الرسمية يتعلم كطالب كل أسس النظام العام، وفيها يمارسه عمليا. وما يتعلمه ويطبقه في المدرسة كطالب هو ما سوف يطبقه عند خروجه للحياة العامة الحقيقية كمواطن.
الخلل في ممارسة المجتمع للنظام العام كبير وواضح ويشمل الكثير من السلوكيات العامة. من أبسطها كالمظهر الشخصي، إلى أعلاها كالمسؤولية تجاه الأسرة والعمل والممتلكات العامة، مرورا بأنظمة السير ومشكلاتها الكارثية. ولا يمكن أن يُحمل التعليم كل ممارسات المجتمع الخاطئة للنظام العام، لكن بكل تأكيد أنه يتحمل الجزء الأكبر من تلك الممارسات السلبية.
مر التعليم حسب معرفتي به بمرحلتين فيما يتعلق بالنظام الذي يطبق داخل المدرسة. المرحلة الأولى لم يكن هناك نظام محدد وواضح للنظام العام داخل المدرسة. وفي تلك المرحلة كان عرف المجتمع هو السائد، بالإضافة إلى ما تتبناه إدارة المدرسة وهيئتها التعليمية من أنظمة. وكان تطبيق تلك الأنظمة العرفية للمجتمع والمدرسة صارمة جدا يصل حد العنف والقسوة المفرطة غير المبررة في معظم الحالات، وكان المجتمع متقبلا لتلك القسوة في التعليم لحد كبير.
ومهما كانت النتائج الإيجابية للتعليم في تلك المرحلة التي يدعيها البعض، وأنه أخرج رجالا كما يقال دائما، إلا أنه كان يعاني من مشكلتين رئيسيتين: الأولى عدم وجود نظام واضح للأنظمة يمكّن المدرسة (المعلم) والطالب وولي الأمر من معرفة ما لهم وما عليهم بوضوح، ومعرفة الصواب من الخطأ في تصرفاتهم. فما يطبق من الأنظمة العرفية يعتمد بدرجة كبيرة جدا على الطبيعة الشخصية لمطبق النظام وهواه.
المشكلة الثانية تمثلت في القسوة المفرطة التي تمارس ضد الطلاب داخل المدارس، والتي تسببت في تسرب أعداد كبيرة جدا منهم من التعليم، أو تعثرهم وعدم قدرتهم على الوصول للمستوى الذي يرغبون فيه. وهذه المشكلة يدركها الجميع ويتحدث عنها بعض من لم يستطع إكمال دراسته، ويرجعون السبب غالبا إلى قسوة المدرسة.
المرحلة الثانية التي تولى زمامها معالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد رحمه الله وزير التعليم السابق، والذي عمل طوال فترة توليه الوزارة على إنجاز أنظمة التعليم في كافة الجوانب. ومنها النظام العام الذي يعرف في التعليم بـ (لائحة السلوك)، التي تنظم سلوك الطالب داخل المدرسة. ولائحة أخرى تنظم تعامل المدرسة والمعلم مع الطالب، والتي أشتهر منها فيها عبارة (الضرب ممنوع).
النتيجة الإيجابية المباشرة لتلك الأنظمة كانت نزع رهبة المدرسة من نفوس معظم الطلاب مما مكنهم من التعامل مع المدرسة بأريحية كبيرة. وخفضت نسبة التسرب للحد الأدنى، والذي يعد من أسبابه الرئيسية الخوف من المدرسة كما كان في السابق. لكن عدم التوازن في تطبيق الانظمة العامة داخل المدرسة لم ينزع رهبة المدرسة من نفوس الطلاب فقط، بل نزع هيبتها وهيبة المعلم تماما من نفوس الطلاب. وأستطيع إعطاء عشرات الأمثلة الواقعية التي تؤكد هذه الحقيقة المؤلمة، لكن ما يدركه المجتمع بوضوح لا أظنه يحتاج لشواهد.
المهم هنا كيف فقدت المدرسة هيبتها؟ وما هي النتيجة الكارثية لذلك؟
على مدى سنوات طويلة عملت الوزارة وكافة فروعها على نزع رهبة المدرسة من نفوس الطلاب، من خلال الأنظمة التي تحمي الطالب من الأذى الجسدي والنفسي بكافة أشكاله، ومن خلال آليات التنفيذ لتلك الأنظمة. والحقيقة أن النظام المكتوب في أساسه سليم غالبا. لكن الآلية التي تم التعامل بها معه هي التي حرفته عن مساره وحولته إلى أداة هدم لهيبة المدرسة ونظامها.
تلك الآلية أخذت عدة مسارات سلبية هي: أولا التعامل الفوقي المتعالي الذي انتهجته الوزارة وفروعها مع المدارس، لدرجة أصبح بعض مسؤولي إدارات التعليم يعتقدون أن منسوبي المدارس مجرد عاملين لديهم. وهذه النظرة المتعالية فرضت طبيعة وطريقة تعامل الوزارة وإدارات التعليم مع المدارس. والمجتمع بشكل عام والطلاب بشكل خاص يرون بوضوح تلك النظرة. وقد انتقلت للمجتمع والطلاب بمرور الوقت من خلال الممارسة الفعلية التي يشاهدونها عن طريق الأحداث الخاصة، ومن خلال تصريحات المسؤولين في الإعلام عن كل حادثة تكون المدرسة أو المعلم طرفا فيها. والتي يبدو فيها الحكم المسبق على المدرسة(المعلم)، والتهديد الواضح بالعقاب. وهو سلوك تتفرد به وزارة التعليم.
الإشكالية الثانية وهي الأخطر والأكثر أثرا بمرور الزمن. تلك هي المبالغة في تطبيق الأنظمة التي تحمي الطالب بدرجة تفوق الواقع الفعلي للأحداث وللأنظمة، حتى وصل الأمر أن استغل بعض الطلاب وأولياء أمورهم تلك الأنظمة للضغط على المدارس، بل وللإساءة للمعلمين وابتزازهم في بعض الحالات، لما يعرفونه من طريقة تعامل الوزارة وإدارات التعليم مع الأنظمة التي تحمي الطالب، والتي بالغت في إعطاء الحق للطالب إلى ظلم المدرسة والمعلم.
الإشكالية الثالثة تمثلت في التساهل الكبير جدا في تطبيق أنظمة لائحة السلوك على الطالب الذي يخالف الأنظمة ضد المدرسة أو المعلم، وحتى ضد الطلاب الآخرين ما لم يصر ولي أمر الطالب المتضرر. حيث تتجاهل بعض إدارات التعليم تلك الشكاوى، وتحث المدارس على عدم التشدد مع الطالب، وحل الأمر وديا. وإن اضطرت للتعامل معها فإنها تأخذها بأقصى درجات التسامح وسعة الصدر، وتمرير الأمر بما يكون في صالح الطالب وإن خالفت اللائحة. ويكفي مثالا على ذلك أن يقوم مدير تعليم باستقبال طالب قام باستفزاز معلم طوال الحصة ثم تصوير ثورة المعلم ونشرها في الانترنت، وذلك لاسترضاء الطالب. دون النظر في جريمتي الطالب (التصوير داخل الفصل والنشر في النت بغرض الإساءة). والأحداث كثيرة جدا ولا تحصر.
النتيجة من جانبي العملية التعليمة: الطالب أخذ الضوء الأخضر في التعامل مع المدرسة وأنظمتها بحرية مطلقة دون أن خوف أو رادع. ما لم يكن لديه رادع ديني وأخلاقي تعلمه في البيت. والمدرسة (المعلم) من جانبها فقدت الرغبة والحماس في تطبيق الأنظمة لأنها تدرك أن النتيجة ليست في صالحها. بالمحصلة فقدت المدرسة (والمعلم) هيبتها في نفوس الطلاب وفي نظر المجتمع، وأصبحت الأنظمة العامة في المدرسة مجرد حبر على ورق، ولا يعرف منها إلا المقولة التي تحولت من (يمنع الإساءة للطالب مهما فعل) إلى (يمنع معاقبة الطالب مهما فعل).
المحصلة النهائية والكارثية أن المؤسسة الرسمية الأولى (المدرسة) التي يتعامل معها المواطن فقدت هيبتها في نفسه، وليس لأنظمتها العامة أي قيمة في نظره. فكيف نتوقع منه أن يتعامل مع بقية المؤسسات الرسمية وغير الرسمية؟ وكيف سيتعامل مع كل الأنظمة الأخرى؟
الناشر: شركة مال الإعلامية الدولية
ترخيص: 465734
©2025 جميع الحقوق محفوظة وتخضع لشروط الاتفاق والاستخدام لصحيفة مال